منذ اكثر من اربعة عقود كنت طالبا في الجامعة الاردنية حيث كانت حياة الطلبة مليئة بالزهو والامل والايمان بالمستقبل والاعداد له... كنا نحرص على حضور المحاضرات وتدوين الملاحظات واخذ كل شي على محمل الجد.
في تلك الايام وفي مساق الصحة العامة الذي كان متطلبا من متطلبات الجامعة الاجبارية كنت واحدا من عشرات الطلبة الذين درسوه على ايدي الطبيب الفذ سليمان الصبيحي الذي كان امينا عاما لوزارة الصحة وخبيرا لدي منظمة الصحة العالمية..
في ذلك المساق الزاخر بالمعارف الاساسية والمعلومات العامة عرف لنا المدرس الصحة بانها لا تعني خلو الجسم من الامراض، بل انها تعني بالاضافة لذلك فعالية الاجهزة والانظمة التي يشتمل عليها الجسم الانساني وتمتعها بالقدرة على القيام بوظائفها بلا عوائق او عقبات وصعوبات.
لا اظن ان الدكتور الصبيحي تطرق باسهاب لموضوع الصحة النفسية ففي مجتمعاتنا تعتبر العائلة والجماعة والرفاق وفضولهم نظام تدخل سريع واسعاف ووقاية سرعان ما يتحرك لحماية واسناد الافراد ممن تبدو عليهم علامات الوهن والاضطراب النفسي.
الحقيقة الجديدة ان كل ذلك قد تغير فلم تعد المؤسسات التقليدية قادرة على القيام بكل المهام التي نهضت بها قبل ان تتعقد الحياة ويتعاظم دور التكنولوجيا والاتصال في تعميق الفردية التي اصبحت مظهرا وملمحا بارزا لمجتمعات اليوم
في الاردن اليوم عشرات الاطباء النفسيين ممن تلقوا تعليمهم وتدريبهم في اقدم واعرق كليات الطب ومستشفيات وعيادات العالم الغربي قبل ان يعودوا الى الاردن لممارسة مهنتهم في خدمة مرضى واشخاص يحاولوا التستر على مرضهم او انكاره او عرض حالاتهم على الاطباء بعد ان يكونوا قد كيفوا توصيفها لتنسجم مع الصورة الذهنية التي يود المرضى ان يتركوها لدى الطبيب.....
الوسم او الوصم مشكلة ثقافية نخشى جميعا منها خصوصا ونحن نعرف ان مجتمعنا يدير افرادة باستخدام النعوت والصفات لغايات التهديد والسخرية والتهكم وينهال على كل من لا ينصاع للرغبة العامة او اوامر السلطة بكل اشكال الالقاب والنعوت والاسماء غير المحببة او الموذية للفرد
بحسب بعض التقديرات المحافظة يعاني نسبة كبيرة من ابناء مجتمعنا من واحد او اكثر من الامراض والاضطرابات النفسية المعروفة. الفصام والذهان والاكتئاب والعصاب بعض من الاشكال التي اصبح بعض من يعانون منها يترددون على عيادات الطب النفسي لعلهم يتخلصون من تأثير هذه الاضطرابات على نوعية حياتهم ويحرروهم من كوابيس النوبات التي تجتاحهم من وقت لاخر.
في حديث متشعب صباح الجمعة مع طبيب نفسي معروف حول واقع الصحة النفسية للشعب الاردني عرفت منه ان المتعلمين والاشخاص الاكثر انفتاحا على العالم يحجمون بدرجات اعلى عن تلقي المساعدة الطبية في حين لا يجد كثير من الاشخاص الاقل تعليما وانفتاحا حرجا في مراجعة العيادات الطبية وعرض حالاتهم.
الملاحظة التي ابداها الطبيب النفسي مثيرة وملفتة وتستدعي من علماء الاجتماع البحث في العوامل والظروف التي خلقت هذا التفاوت وفيما اذا كان للوسم او الوصمة التي يخشي منها الناس تاثيرا على اتخاذ الافراد المصابين باضطرابات لقرارات طلب المساعدة الطبية او اتخاذ خيار الانكار والتستر علي الحالة التي وصلوا اليها
في عالم اليوم ومن مشاهداتي تولدت لدي القناعة بوجود الالاف من المرضى النفسيين الذين يخالطوننا ويتفاعلوا معنا ويتولوا مسووليات جسام دون ان يجري التدقيق في اهليتهم او توفير الرعاية والمساعدة لهم..... قد تكون حالة غياب المعايير وتفكك القيم التي تمكنا من الحكم مسؤولة جزئيا عن هذا الوضع المقلق الذي وصلنا اليه.