المرحوم د. حازم نسيبة، و"ذكريات مقدسية"
يوسف عبدالله محمود
13-04-2022 09:00 PM
بين يدي كتاب يروي مؤلفه جانباً من سيرته الذاتية، ضمنّه ما اسماه "ذكريات مقدسية". مؤلف الكتاب سياسي ودبلوماسي اردني عريق امضى عقوداً طويلة في خدمة وطنه كرّس معظمها وفياً لقضيته الفلسطينية، كيف لا وهو ابن احدى العائلات المقدسية العريقة. قريباً جداً من المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال –طيب الله ثراه- كان. عمل وزير خارجية في عدد من الوزارات ووزيراً للبلاط الملكي الهاشمي، فسفيراً لبلاده في عدد من البلدان العربية والأجنبية. ثم مندوباً للأردن في الأمم المتحدة، وأخيراً عضواً في مجلس الأعيان عدة مرات أولاها عام 1983.
لن اتناول كل تفاصيل هذا الكتاب، ولكنني سأقف عند بعض المحطات فيه –اذا جاز التعبير- لانها تكشف الكثير من الخبايا السياسية التي لا يعلمها الكثيرون منا. كتب د. حازم نسيبة ذكرياته هذه حين كان في سن الخامسة والثمانين!
في كل المناصب الرفيعة التي تقلدها ظل وافياً لقضيته الفلسطينية يفضح الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 والى الآن. ذات مرة –وكما يورد في ذكرياته- سأل وزير خارجية الولايات المتحدة دين راسك عام 1965 قائلاً: لماذا لا تحلون القضية الفلسطينية على اساس قرارات 181 و194، فرد عليه راسك قائلاً: "إن كل من اقترب من القضية الفلسطينية احترقت يداه". المرجع السابق ص 526.
حين كان مندوباً للأردن في الأمم المتحدة دعا الى اقامة نظام انساني دولي جديد، وبالرغم من ترحيب العديد من الوفود بهذا الاقتراح الا ان تفعيله على الأرض ما زال غائباً الى الآن، بسبب مواقف بعض الدول الكبرى التي تقف عقبة في وجهه.
حازم نسيبة كان جريئاً في مواقفه لا يتخلى عن قناعاته اذا ما رأى انها تخدم القضايا العربية وبخاصة القضية الفلسطينية.
"إنني فخور بأن اسجل انه عندما عرض مشروع قرار في اواخر السبعينات على الجمعية العامة لإنشاء مركز المفوض العالي لشؤون حقوق الانسان وقررت المجموعة العربية آنئذ التصويت ضد القرار، على أساس انه يمكن ان يستخدم للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، خالفت اجتهاد المجموعة العربية وأدليت بصوت الاردن مؤيداً لإنشاء ذلك المنصب". المرجع السابق ص 411.
فعل حازم نسيبة ذلك انطلاقاً –كما يقول- من "اعتبارات اخلاقية واهتمام بحياة الانسان وكرامته، حتى وإن ادى ذلك الى تدخلات في الشؤون الداخلية للدول العربية وغير الدول العربية، وبالأخص اسرائيل ومخالفاتها الفاضحة لأبسط حقوق الانسان". ويضيف هذا السياسي والدبلوماسي العريق قائلاً: "كان موقفي ينبعث من الادراك بأنه لا يوجد في هذا الميدان ما نخفيه في الاردن، وان ارتكبت مخالفات فلنصلح اعوجاجها، سواء باجتهاداتنا الذاتية، او بمساعدة المفوضية العامة لحقوق الانسان" . المرجع السابق ص 211.
بُعد النظر هذا قل ان نجده عند الكثيرين من السياسيين العرب. حازم نسيبة –كما اسلفت- كان جريئاً في الحق وعلى المستوى الانساني.
وللتدليل على ذلك يورد هذه الحادثة: يقول: "في اول شهر من وزارة وصفي التل التي كنت عضواً فيها، بلغنا ان مواطناً شركسياً قد تعرض لمعاملة بالغة السوء لاتهامه بانتماءات شيوعية، وقد قرر مجلس الوزراء وبمبادرة مني، اجراء تحقيق سريع في الحادث ومعاقبة المسؤول عنه واحالته الى التقاعد". المرجع السابق ص 211.
د. حازم نسيبة لم يكن سياسياً ودبلوماسياً فحسب، بل مفكراً ألمعياً وصاحب دراسات ومؤلفات كثيرة، منها:
- "فلسفة القومية العربية" عام 1956.
- فلسطين والأمم المتحدة 1981.
- نحن والعالم 1983.
- ذكريات مقدسية 2008.
في مؤلفاته كلها ظل يدعو الى "حوار الحضارات" ايماناً منه بأن منطلقاتها انسانية. وفي نقد لاذع منه لدعوات الديمقراطية التي تطلقها امريكا وبعض الدول الكبرى يقول: "كم تبدو خاوية دعوات الديمقراطية التي تطلقها إدارات الولايات المتحدة في يومنا هذا، وهي غارقة في دماء وآلام ومعاناة شعوب هذه المنطقة". المرجع السابق ص 524.
وبالرغم من الظروف غير الانسانية السائدة اليوم عربياً، فإن نظرة د. حازم نسيبة نحو المستقبل العربي تظل متفائلة. "سوف يشهد العالم العربي نقلة نوعية كبرى الى الأمام في مسيرته الحثيثة للحاق بركب العالم المتقدم، بحيث يصبح اكثر تأهيلاً للتفاعل مع مسيرة الحضارة الانسانية التي يشكل العالم العربي رافداً من اهم روافدها على امتداد التاريخ، عندها سوف يصبح الحديث عن "صراع الحضارات" ذكرى خافتة عفى عليها الزمن، وهامشاً ذيلياً في بطون الكتب". المرجع السابق ص 524.
تُرى، متى يشهد عالمنا العربي المرزوء اليوم بالنكبات مثل هذه "النقلة النوعية"؟
اختم بالقول: "ان "ذكريات مقدسية" تستحق ان يُشاد بها، فهي ذكريات فيها من الشفافية والصراحة الشيء الكثير.