قبيل أيام قام شاب فلسطيني بعملية جريئة في مدينة تل أبيب أدت إلى مقتل وجرح العديد من الأشخاص، كما تسببت العملية بحالة من الهلع لا توصف داخل دولة الاحتلال لدرجة بدت كأنها تحدث لأول مرة، وحتى ردود الفعل تجاهها لم تكن كما عهدناه في مرات سابقة، فبعض الصحف التي تعودت أن تنتصر لإسرائيل وجدناها تحجم عن وصف العملية بالإرهابية وهذا أثار حفيظة إسرائيل، بينما في الجانب الآخر وجدنا دولاً عديدة تعودت أن توجد المبررات لهكذا عمليات نصرةً للفلسطينيين تعلن مباشرة عن إدانتها للعملية ووصفها بالعمل الإرهابي، ويبدو أن مياهاً كثيرة جرت في نهر هذا الصراع أدت إلى تبدل وتغير المواقف، لكن ما لا يمكن انكاره ان ما حصل انهى حالة الخلود الاسرائيلي، بأن لا ثمن سيُدفع إن هي ابقت الوضع الفلسطيني على ما هو عليه، وأن اللاءات الستة والتي اصبحت ركناً راسخاً لدى كل سياسي في دولة الاحتلال وهي (لا مفاوضات، ولا حل دولتين، ولا حل دولة واحدة، ولا تجميد للمستوطنات، ولا سيادة فلسطينية في القدس الشرقية، ولا عودة للاجئين الفلسطينيين) كل هذه اللاءات أصبحت تثير علامات استفهام حول امكانية الاستمرار بها بعد أن أثبتت عملية تل أبيب أن الوضع مرهون على قشة، وأن كثيراً من المعطيات قد تغير على الأرض وأن ثمن حشر الفلسطينيين في زاوية يكون فيها الخيار محدوداً بين إما الاستسلام او الموت سيكون باهظًا جداً.
فالفلسطيني الذي سلب منه جزء كبير من وطنه التاريخي في العام ١٩٤٨م تحت حجج لا تاريخية تستند الى مقولات دينية حولت نصوصها الى حقائق تاريخية طبقت على الأرض بواسطة إرادة دولية متواطئة مع المشروع الصهيوني، هذا الفلسطيني تمرس العيش مع المرارة والقهر بالذات عندما تكررت التجربة في العام ١٩٦٧م حينما وجد نفسه يتعرض من جديد لهزيمة لم يكن له يد فيها كما سابقتها، وهو منذ ذلك الحين يعيش ويتعايش مع خطط سلام فاشلة وقمم وراء قمم سواءً على الصعيد العربي او الدولي، وهو تعود على سماع الأخبار عن مفاوضات سرية عُقدت في أماكن لا جدران لها، وهو تمرس التعامل مع المبادرات الدولية وقرارات الأمم المتحدة وبرامجها للمساعدات وغيرها الكثير، وهو تمرس أن يرى دولة الاحتلال ترفس كل تلك القرارات والمبادرات بدون ادنى تردد باختصار لانه لا تكلفة من وراء عملها هذا، بل على العكس هي تمكنت من استثمار الحالة الفلسطينية في كلا الاتجاهين فمن أراد السلام معها قيدته باتفاقيات وقيود لا يمكنه الانفكاك منها، ومن أراد المقاومة وصمته بالإرهابي وحرمته مما يحق لجميع شعوب الأرض وهو مقاومة الدولة المحتلة، كل ذلك بسبب ما تمتلكه من تأثير كبير على المؤسسات الدولية سواء في الولايات المتحدة والغرب عموماً.
كل هذا التاريخ من الأبواب المسدودة والآفاق المغلقة لم يستطع أن يفت من عضد الفلسطيني، فبعد أن أدرك أن كل تلك المبادرات والقرارات والقمم، لم تستطع أن تحقق له ما ينعم به أي إنسان في هذه المعمورة وطنناً لهوية، وأن إسرائيل استطاعت حتى الآن أن تحطم كل ما سبق وحاولت جعل هذه الهوية تهيم على وجهها في كل العالم بدون هدف فهي سلبت منه كل شيء، وفي لحظة اعادت الامور الى نقطة البداية، يبدو أن هذا الفلسطيني قرر ان يوقظ المارد الكامن في داخله ويثأر لنفسه بنفسه فهو قد تيقن أنه ما لم تدرك اسرائيل مرارة الخيارات، لن تذهب إلى الحل، فمنذ فترة وهي تنعم بالاسترخاء بدون ثمن يذكر، ويبدو أن عملية تل أبيب تفتح من جديد باب تسديد الفواتير التي ربما تكون مضاعفة في هذه المرة، فهي نتيجة حصيلة ثقيلة من المرارات والقهر والوجع، إذاً لا تلوموا هذا الشاب، لا تصموه بالإرهاب، فمن قام بالعمل ليس هو بل افعالكم فأياديكم ملطخةً بالدماء بسبب ما فعلتموه أنتم والمجتمع الدولي، حينما قررتم أن هذا الفلسطيني ضعيف ولا يحق له ما يحق لغيره من الشعوب، إذا فادفعوا ثمن هذه القناعة فمنذ الآن لن تنفع كل أسلحتكم وجبروتكم في منعه من تحقيق هدفه، هوية بوطن يضمها بين ذراعيه دون ذلك يبدو ان الموت أصبح سهلاً ومستساغاً بالنسبة لأي فلسطيني.
(الراي)