ربما يغيب عن بال كثير من المعارضين للسياسات العامة أن المعارضة ليست مهنة، ولم تكن في يوم من الأيام هدفا بحد ذاتها، لا قديما ولا حديثا، لا في المجتمعات النامية ولا في المتقدمة، بل هي سبيل من سبل التنافس مع الحكومات على خدمة الوطن ورفعة شأنه، كما قد يغيب عن بال بعض الحكومات والسلطات التابعة لها أن المعارضين ليسوا أعداء يجب إقصاؤهم وتهميشهم ومحاربتهم، وأن المعارضة شريك مهم وفاعل في المسيرة الوطنية المشتركة نحو التنمية والرفاه والاستقرار، وأعتقد أن هذا الأمر مؤطر دستورياً وقانونيا، والدولة الأردنية بما ثبت من تاريخها ومسيرتها وممارساتها تتسع للجميع، وعلى كل حكومة وطنية أن تعي ذلك تماماً.
وبناء عليه فحين يمتلك حزب أو تيار، أو جماعة أو فرد رؤية أو برنامجاً واقعياً قابلاً للتطبيق، من شأنه أن يساهم في إيجاد حلول ناجعة لمشكلات عامة بوسائل دستورية وقانونية، لا تنال من الأمن والسلم الاجتماعيين، فمن الواجب على الحكومة وسلطاتها عندئذٍ أن تتعاطى مع هذا باعتباره جهدا وطنياً يستحق الإصغاء إليه باهتمام بالغ، ودراسته وتقييمه بشكل علمي وموضوعي بحت، وأن لا تصم أذنيها وتغض طرفها عن أي برنامج أو فكرة بناءة لمجرد أنها قادمة من جهة غير صديقة عناداً وإصراراً على التفرد والاختلاف، وتجانفاً عن العمل بروح الجماعة وعقلية الائتلاف، وعلى الحكومة والمعارضة معاً أن يعمقا وعيهما كل بدور الآخر، فلتتخيل الحكومة لو كانت معارضة ما هو شكل وطبيعة الحكومة المفضلة لتعمل معها بشكل مريح ومثمر، ولتتخيل المعارضة لو كانت حكومة إلى أي حد يمكنها تلبية مطالب المعارضة مع مراعاة الإمكانات المادية والظروف الإقليمية والدولية المحيطة بها.
على المعارضة أن تعي أن ليس هناك معارضة مستمرة وأبدية، وإلا فإنها معارضة ستتحول إلى راديكالية ثورية لا تليق بدولة أنهت مئة عام من مسيرتها المباركة، أرست خلالها تقاليد سياسية واقتصادية واجتماعية كثيرة، ولا يمكن لأي معارضة في أي مجتمع من المجتمعات أن تكون مشروعة ووطنية ما لم تلتزم بمبادئ الدستور بوصفه الترجمة الحقيقية للعقد الاجتماعي الذي يؤسس العلاقة بين القيادة والشعب، وفي حال تجاوزت المعارضة السقوف الدستورية والقانونية فإنها تكون عندئذٍ قد نزعت عن نفسها صفة الوطنية والصالح العام، ودخلت في إطار الفوضى والتمرد والطموحات الشخصية.
يجب أن يستقر في قناعاتنا العميقة أن المعارضة هي معارضة برامجية وليست حالة عدائية؛ بمعنى أن على المعارضة أن تنخرط في مسيرة البناء والتنمية بشكل عملي، وأن تمتلك رؤية مؤسسية شاملة قادرة على تقديم الحلول، وعلى الحكومة أن تكفل لها الحق في التعبير عن نفسها بالوسائل السلمية المشروعة، كي لا تضطر إلى العمل في الخفاء، ومن ثم تزداد حالة الاستقطاب داخل المجتمع.
وكذلك فإن على المعارضة أن تكون راشدة، وأن تكون محط احترام الشعب وتقديره بمقدار ما تملك من رؤية وطنية تنطلق من الوطن وتعود إليه، وبما تنتهج من أساليب محترمة وعصرية بعيدة عن العنف والسب والشتم والتجريح، لا تستقوي بالخارج، وأن تكون ناضجة تتجاوز المناكفات والافتراءات، وتسخين الملفات، وأن تكون نزيهة لا تنتهج سياسة الاسترزاق والتكسب، ومن ثم فإن مثل هكذا معارضة تشارك في فرض قيم النزاهة وتكريس الشفافية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وتكافؤ الفرص، ومكافحة الفساد؛ أي أن المعارضة مصدر قوة للدولة ونظامها، ومؤشر واضح على تحضرها وحيويتها وديمقراطيتها وإيمانها بالتعددية فعلا وممارسة.
المعارضة نفسها أيضا يجب أن تقبل بفكرة التنوع والتعدد وتؤمن بها في تعاطيها مع تعدد الأصوات داخل الجسم العام للمعارضة، فليس من المعقول أن يمارس التشكيل الأبرز أو الفصيل الأكبر في المعارضة في بلد من البلدان ما ينعى على الحكومة من ممارسات غير ديمقراطية، فيقوم باستبعاد الأصوات التي تعبر عن فصائل أقل حجما وأضعف حضورا عندما تختلف معه في الرأي أو لا تتفق معه في الطروحات وأساليب الممارسة السياسية وأدواتها، ويعمد إلى تهميشها والتضييق عليها، ونتيجة لذلك تتشكل المعارضات في دوائر وتيارات مغلقة كالتيار الإسلامي الذي يضم تشكيلات لا ينفذ بعضها إلى بعضها الآخر، وكذلك التيار القومي، ومثله التيار اليساري، فهي تدور في (كانتونات) مفصولة عن بعضها، وتعمل بمنهجية أقل تسامحا مع بعضها من منهجية الحكومة في تعاطيها مع المعارضة.