(فلان ضرب رأسه الحنت)، تقال لمن مرّ بتجربه قاسية حولت مسار حياته من التياسة الى الفهم.
وأقول أن كلامَهم صحيحٌ، فالانسانُ غافلٌ بطبيعة حاله - (وإن أكثرهم لغافلون) - كثيراً ما تشتتُ بوصلةَ حياته صروفُ الدهر ومشاغلُ الدنيا، فيبقى بغفلته هذه ولو تظاهرَ أنه بالغٌ راشدٌ حكيم، فما ذاك الا تدافعٌ بالقصور الذاتي لحالةٍ ابتدائية كانت صحيحةً، ومسايرةٌ لديمغرافيةٍ اجتماعية حكمتها ثقافات العيب وكلام الناس، لكن الهداية الجوهرية الحقيقية، لا تأتي الا بعد حدثٍ فارق مهم، يلتقي به المرء بزمكان ما بمسار حياته، فيكشف له حقائق لم يكن يراها قبله، وقتئذ تجتمع في عقله صحوةٌ منيرة مع غفلةٍ مظلمة، يصار عندها لتغيير المسار بنضج كافٍ الى قناعات جديدة، تُحدثُ طفرةً نوعية في روتين حياته لما هو أفضل انجازا، واكثر سعادة، واعمق نظرة، وارشد سبيلا. ذلك الحدث هو الحنت غير المرئي الذي يظهر فجأة في وسط الجبهة، لا يسدي نصيحة هادئة أخوية، بل يصفع ضارباً النواصي، كرشق ماء بارد في صبح شتاء قارس من أمّ رؤوم، ارادت الصحوة بلا كسر عظم ولا جرح لحم، بل لتنشيط عصب.
كثيرٌ من عمالقة الدنيا كانوا يسيرون بمسارب خاطئة، الى ان (خبطتهم) حنوت الدنيا المخفية فجأة، فجعلت منهم عظماء بعد ان كانوا نكرات، وابدعوا بعدما فشلوا، واختلفت حنوت احداث التغيير لكل منهم، فهذا كوته نار فقد الام او الاب، وذاك عصرته حاجة الفقر والعوز، وذياك كسرت قلبه مرارة فشل ما بالدراسة، وأخر عانى من مرض عضال، وهكذا الى ان تحول كل منهم لإنسان آخر، تفجرت طاقاته، وتنورت آفاقه، وكُشف غطاء بصيرته، فبصره يومها حديد، وانقلب الى حال جديد، وهناك نوعٌ مختلف فتح الله عليه نور هدايته، بلا حنت غير مرئي مفاجئ، ولا حدث فارق ولا تجربة قاسية، هؤلاء هم المحظوظون بدعوة أم او أب، او هداية رب رحيم.
اللهم نسألك هدايةً قبل صحوة الموت، بلا ألم فراق، ولا أنين مرض، ولا مرارة فشل، ولا مفاجآت الحنوت المخفية، اللهم هداية من لدنك تنير بها دروبنا، لنرَ الخير خيراً، والشر شراً، قبل فوات الأوان، ومغادرة المكان. آمين.