دار الندوة في مكة

ذكر عن لسان الرحالة الى البلاد الحجازية، أن مكة أو بكة كلمة بابلية معناها- البيت وقال آخرون مكة الحرم وبكة المسجد خاصة . ومهما اختلفت الاقوال بينهم فان معظهم اتفقوا على شيء واحد هو اسم المدينة والمركز الديني لها الذي كانت تتمتع به قبل الاسلام بسبب موقعها الجغرافي ووجود بئر زمزم التي جعلت منه محطة للقوافل التجارية.

كل ذلك أدى الى نزوح بعض قبائل الصحراء اليها والاستيطان بها منذ القدم، أما السيادة الدينية والسياسية كانت تنتقل من قبيلة الى اخرى حتى احتلها بني خزاعة من اليمن آثر انهيار سد مأرب وفتور التجارة البرية بين اليمن والحجاز انذاك.

استمرت خزاعة في حكم مكة وولاية البيت في القرن الخامس عشر عندما استولى عليها قصي بني كلاب – من قريش على أمر مكة والبيت الحرام سنة 440م بعد ان أجلى خزاعة عن المدينة. وتولت قريش الزعامة وحملت عبء المسؤولية حتى اصبحت المدينة من افضل المدن التجارية.

وكان لا بد من تنظيم الحياة من جديد بها ووجود حكم يتلائم معها ولكن هذا الامر لم ينشأ بطفرة واحدة حيث كانت في بادئ الامر كل قبيلة تمارس دستورها العشائري لوحدها ولكن جميع هذه القبائل والعشائر تشترك بتحالف تجارة مشتركة.

وما أن اشرف اواسط القرن الخامس الميلادي حتى أنبثقت من هذا المجلس دار الندوة التي أسسها قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي أحد اجداد الرسول وجامع شمل قريش. والندوة لغة المجلس، ودار الندوة كل دار يجتمع فيها للمشاورة ومعناها بالمعجم (مجلس القوم) ودار الندوة بناها قصي بن كلاب حوالي عام 440م لتكون سكناً له تجتمع فيها قريش تحت أمرته لتقضي في شؤونها العامة والسياسية والدينية والتجارية.

وتحدث البعض وقال ان مكة لم يكن بها بناء غير الكعبة الى ان تولى قصي امرها وعلل البعض بان خزاعة، وجرهُما قبلها لم يرغبوا ان يكون الى جوار بيت الله بيت غيره وانهم لم يكونوا يقيمون ليلهم بالحرم، واضاف البعض ان قصي لما استلم امر مكة جمع قريش وآمرهم ان يبنوا بها وأبتدء ببناء دار الندوة وذكر ذلك عبر الكتب وكانت اول دار بنتها قريش بمكة.

وكانت في جوار الكعبة وتطل على الطواف وكان لها باحة رحبة ولم يكن يدخل هذه الدار الا للمشورة وغير بني قصي وحلفائهم ويشرط ان يكون عمره اربعين عاماً على الاقل. ولم تستخدم هذه الدار للمشورة فقط بل كانت تعقد قريش لواءها اذا خرجت للحرب وكانت ترحل قوافلها التجارية وفي فنائها كانت تحط قوافلها التجارية ولم يكن يتزوج امرأة او رجل من قريش الا فيها ويجري فيها ختان الغلمان واذا بلغت الفتاة جاء بها أهلها اليها فشق عليها قيم الدار درعها (اي قميصها) ثم درعها اياه، وانقلب بها اهلها فحجبوها وقد يكون الغرض من الامرين احصاء البالغين من الذكور والاناث.

ولعل أهم خصائص الدار انها كانت المكان الذي تجتمع بها قريش لتقرر امورها العامة.

فمثلا اجتمعت قريش بها لتقرر مصير الرسول قبل هجرته وكانت تجتمع لتداول امر غزواته وتراقبه ورفاقه وهم يطوفون حول الكعبة.

وكانت هناك الكثير من القرارات التي كانت تتشاور بها وخاصة بما يتعلق برسول الله ولعل قراءاتي للجلسات وتداولهم الحديث باتفاق او غيره يدل هذا على الحرية في مبادلة الرأي في دار الندوة، برلمان قريش في الجاهلية وعند بزوغ فجر الاسلام. وعلى آثر اعتناق قريش الاسلام فقدت هذه الدار صفتها الرئيسية كدار مشورة وندوة وانتقلت بعد موت قصي الى ولده الاكبر عبد الدار ثم الى بنيه حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الله لمعاوية بن ابي سفيان بمئة الف درهم فجعلها دار الامارة بمكة، ثم اهملت حتى جاء الخليفة المعتضد بالله فأمر بهدمها وادخاله الى المسجد الحرام ولا ريب ان الاهمال الذي اعتراها كان رمزاً للتطور شامل في الحياة السياسية عند العرب. واليوم هناك الكثير من دار الندوات ومجالس البرلمان التي تفتقد المشاورات القديمة وتركت امورها لغيرها.

ونتفق اخراً بأن اول برلمان عربي كان دار الندوة في مكة .