نقاش اقتصاديات الأسعار في كثير من أبعاده غير علمي، لا يستند للمعلومات الدقيقة، ويشوبه بعض الشعبويات التي تحاول الصعود على حساب ظروف الناس الصعبة. قلة من حاولت تناول الأمر بقدر من الدقة والبوصلة الاقتصادية الدقيقة. الأسعار مرتفعة لا أحد يشكك بذلك أو لا يراه، ولكن تلك نصف الحكاية، تكملتها، أن الأسعار ارتفعت في العالم أجمع مدفوعة بارتفاع أسعار الطاقة وقلة المنتج الغذائي العالمي، ما قلل العرض مع بقاء الطلب في حدود مرتفعة. دول في أوروبا وأميركا تواجه موجة عاتية من ارتفاع الأسعار تفوق بدرجات ما يحدث بالشرق الأوسط، ومن له قريب هناك أو يتابع هذا الأمر يجد بالفعل أن الأسعار بالأردن لم ترتفع كما في باقي الدول، وذلك بفعل عوامل موضوعية وتنافسية.
أول عوامل تأثر الأردن بدرجة أقل نسبيا بالمقارنة مع باقي الدول في موضوع الأسعار، أنه يمتلك مخزونات من المواد التموينية ولأشهر، وهذا بدوره قلل من الانكشاف الاقتصادي في حالة ارتفاع الأسعار. وجود المخزون أعطى الراحة والأمان، ما انعكس على اتزان نسبي بالأسعار. هذا لم يشفع عند بعض التجار، وقلة منهم بادروا لرفع الأسعار لجني مزيد من الأرباح. السلطات الرسمية لا تستطيع بطبيعة الحال أن تضع رقيبا على كل محل أو متجر، وهي لذلك تعلن عن سقوف سعرية معولة على وعي المواطن لكي يكون رقيبا على تطبيقها. وهنا تأتي ثاني آليات التعامل مع ارتفاع الأسعار (إضافة للمخزون الآمن) وهي وعي المواطن ومقاطعته للبضاعة المرتفعة أسعارها. هذا يحدث بالدول المتقدمة بأن يعاقب المستهلك البائع ولا يشتري البضاعة، أو يشتريها بحد أدنى، حتى يضطر البائع تخفيض السعر. ولنكن صريحين في هذا الشأن، فالأردن بلد صغير ونعرف جميعا أن الأسعار تنخفض بشكل كبير وملموس بمجرد أن تغير جغرافيا مكان شرائك للحاجيات، أو إن تخليت عن أماكن البيع الفارهة. كيلومترات قليلة كافية لتحدث فجوة أسعار لتنخفض في أماكن وتصل إلى 60 % أقل، أما من يريد أن يتسوق في الأماكن الفارهة فليدفع ثمن متعة ذلك، وأولئك الذين يبحثون عن أسعار معقولة نسبيا فهي موجودة.
أما آخر وأهم آليات التعامل مع ارتفاع الأسعار فهي في وجود مؤسستين عظيمتين في الأردن، هما المؤسسة الاستهلاكية العسكرية والمؤسسة الاستهلاكية المدنية، وقد شكلت هاتان المؤسستان بالفعل آلية فعالة لكبح جماح الأسعار وإحداث توازن بالسوق، قائم على معادلات العرض والطلب والربح المعقول. يجد الأردنيون في هذه المؤسسات كامل احتياجاتهم وبأسعار معقولة وجودة متميزة، وهي بذلك شكلت شبكة أمان سعرية محترمة. هذا نموذج أردني فريد وهو فعال وقصة نجاح تستحق أن نفخر بها.
الأردن بلد السوق الحر، والأسعار تحدد بناء على العرض والطلب، وحتى السقوف السعرية فتعد خروجا عن آلية السوق، ولكن لدينا مؤسسات تسويقية قادرة على كبح جماح الأسعار وموازنة السوق، وعلينا أن نستثمر ببناء ثقافة المقاطعة للسلع الغالية حتى ينخفض سعرها.
(الغد)