إننا نعيش زمن الذكاء الاصطناعي بامتياز. فمجرد أننا نحمل ونستخدم هواتفنا الذكية، فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي تدخل في صميم حياتنا يوميا وبأدق التفاصيل. وهذا هو أحد المداخل لكتاب “الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وكيف ستغير كل شيء” لكاتبه الأميركي مارتن فورد، الذي صدر بنسخته العربية قبل أيام، ليأتي مكملا لكتب سابقة للمؤلف أهمها “صعود الروبوتات” و”مهندسو الذكاء”.
لكن الأمر لن يقف عند استخدام الهاتف الذكي، بل سيتعداه إلى أن تصبح مختلف مظاهر الحياة اليومية البشرية معتمدة على أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي ستدهش الجميع بقدرتها على ضبط إيقاع الحياة بسهولة وأكثر سرعة ودقة وبنتائج مضمونة، إن لم يكن السيطرة عليها في مناح عديدة.
خذوا مثلا موضوع الروتين اليومي للحياة، واقتراح هاتفك، عبر أحد برامج الذكاء الاصطناعي الصوتية، ماهية وجباتك اليومية على مدار أسابيع، وبخيارات مختلفة، إضافة إلى قوائم شراء الأغذية والمشروبات اعتمادا على نسب الكولسترول في الدم والسكري وغير ذلك من المحددات الصحية. وكل ذلك وفقا لتحليل أنظمة الذكاء الاصطناعي لنتائج الفحوصات الخاصة بك وغيرها على مدار أشهر إن لم تكن سنوات. مثال آخر يكمن في تحليل أنظمة الذكاء الاصطناعي لعادات الشخص اليومية، وضبطها لمقاييس الحرارة في أجهزة التدفئة والتبريد بشكل تلقائي حسب ما يفضل الشخص، ومن دون طلبه.
هناك طبعا أمثلة عديدة لأنظمة الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية، لكن الخلاصة البسيطة لما تقدم هي أنه من المستحيل تخيل المستقبل دون الذكاء الاصطناعي، وهو ما يؤكده فورد في كتابه الجديد، الذي لن يقف عند الأمثلة الحسية المشار إليها فقط، بل سيتعداها، وقد بدأ، في تحليل السلوك البشري النفسي واقتراح خطوات تؤثر على محددات الفكر والشعور، وبالتالي ماهية قرار الشخص نفسه وعلاقته مع محيطه من أفراد وبيئة. ولهذا قد نصل إلى مرحلة قد يجلس فيها الشخص مع الروبوت المنزلي الخاص به لعرض مشكلة واجهته، وما الطرق المثلى للحل، وما على الروبوت إلا أن يقدم عشرات مقترحات الحلول وفق أفضل الممارسات العالمية. وفي هذا بحد ذاته تعايش للإنسان مع الآلة، قد يراه البعض أكثر نجاعة، في كثير من الحالات، من تعايش البشر مع بعضهم بعضا!
كل ما تقدم هي بالفعل أمثلة لما قد تقدمه أنظمة الذكاء الاصطناعي من حلول للبشرية نحو الأفضل، وقد تلعب دورا في قضايا أكبر، خصوصا في جهود المعمورة لمواجهة التغير المناخي وتبعاته أو في حربها ضد الفيروسات، لكن علينا أن نتذكر أن هناك جانبا مظلما وفتاكا للذكاء الاصطناعي، وذلك ما يقدم فورد بعض الأمثلة عليه في كتابه الجديد، ومنها قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على تزوير الواقع صوتا وصورة وما يخلفه من اضطراب في حياة الفرد والمجتمع، ومنها قدرة الحكومات غير المسبوقة على الرقابة المجتمعية، ومنها أيضا اختراع أسلحة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والقادرة على قتل البشر وحدها، وبدقة تكنولوجية متناهية.
سيتطور الذكاء الاصطناعي وقدراته أكثر في المستقبل، وهذه حقيقة لا مفر منها، سواء كانت النتائج إيجابية أو سلبية، ولن يكون هناك معيار أفضل من الحكم على أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي من المعيار الأخلاقي، وهو ما يجب أن تنصب عليه جهود البشر وعلوم الذكاء الاصطناعي تتطور من مرحلة إلى أخرى. يجب أن يكون هناك استراتيجيات أخلاقية تتماشى مع استراتيجيات العمل والتطور التكنولوجي. وهذا ما قامت به بعض الشركات، ومنها غوغل العالمية وغيرها.
ولعل من المنصف اختتام هذا المقام بالقول إنه ما كان للعالم أن يتطور في علوم الذكاء الاصطناعي لولا وجود الخوارزميات، التي سميت نسبة إلى العالم المسلم أبو جعفر الخوارزمي، وهو من اخترعها في القرن التاسع الميلادي، مقدما بذلك هدية ثمينة للحضارة الإنسانية جمعاء.
(الغد)