أهلًا بك رمضانُ؛ يُسْرًا بعد عُسر، وإقبالًا بعد إدبار، وانشراحًا إثرَ انقباض، في زمنٍ أغبرَ يَموج بالمتناقضات، ويَفيضُ بالمُنغّصات، اختلطت فيه الحقائقُ بالأَوهام، وفيه التبسَ العقلُ بالخيال؛ فبات الحليمُ حَيْرانَ، وبَلغَ السّيلُ الزُّبَى، والْتَقَتْ حَلْقتا البِطان.
إنّه لَضَيف كَريم، يَتَولّى ضيافَتَنَا في الليل إذْ أَدْبر، ويُحْسِن جوارَنَا في الصُّبح إذا أَسْفر.
إنّه نَفْحَة من نَفَحَات الله، يَعُود بِها على عبادِه وقد شَقيت بهم الدُّنيا؛ خَبَطوا فيها خَبْطَ عَشْواء، فَضَلَّت بهم السُّبُل، وما تَبَدَّتْ لهم طُرُق، ولا استبان لهم نُصحٌ ولا رَشَد؛ فقد عَزّ الناصِرُ وقَلَّ المُعِين؛ فإذا ما أُهِلَّ استبشروا فيه خيرًا، وأقبلوا إقبالَ الظَّمآنِ في البيداءِ رأى ماءً، ونَشِطوا نشاط أمِّ موسى فَرَغَ فؤادُها قبل رَدّه إليها، وسَجدوا شاكرين سُجُود إسرائيل تَكَحَّلت عيناه بيوسف. نعم، رمضانُ إكسيرُ حياتهم، أمٌّ رَؤوم تَحْنو على الحَيارى والمُعْوزين، بَلْهَ السّالكين في منازلِ إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين.
رمضانُ، لسانك يَحْلو:
"كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له، إلَّا الصَّومَ فإنَّه لي وأنا أجزي به"،
"يا باغِيَ الخَيْرِ أَقْبِل، ويا باغِيَ الشَّرِّ أَقْصِر".
أيّها الصّائم الكريم، خَيْرُك فيك لا تَنْقصه، وشَرّك منك فلا تَطْفَحُه. ليكنْ رمضانُ إليك روضةً تُزهرُ فيها الكلماتُ والحِكْمة، ومِنْحةً تَمنحُك علاماتٍ في الطّريق، وسَعادةً تأنس بها مع السّابقين، وألقًا يَنْضُرُ به وجهُك، وعِفَّةً تَسْبح بها في مَرابع الأشعريّين. ولا يكون حتْمًا طَعامًا يُسيغه شَراب، ولا إقبالاً يَتْبَعه إدبارٌ، أو إشراقةً تَغْربُ بها عَتَمات.
لعلّ فيه ساعاتٍ من نَهار، ودقائقَ من ليلٍ، فليكن فيه إقبالٌ إلى الدّنيا نَهارًا عملًا، وإدبارٌ منها ليلًا رجاءً وأملًا؛ فدقائقَ الليل غاليةٌ لا تَرْخُصُ بالغفلة، بل إنّ للّيل لَذّةً تَجْعل أَهْل الليل في لَيْلهم أَلَذَّ من أَهْل اللّهو في لَهْوهم، وقد قيل: "لَوْلا اللّيلُ ما أَحَبَّ المُؤْمنُ البَقَاءَ"؛ فالعُبّادُ مُسْتيقظون والنّاس نائِمُون، يَتَبتَّلون وأَهْلُ الخَنَا سامدون.
يَعُود رمضانُ، ودائمًا عَوْدُهُ أَحْمدُ؛ فإنَّه مَحَطّة تُعالَج فيها القلوبِ بما عَلِق بها من رَانِ الأيام والسّنين؛ فالقلوب مُضَغٌ، وهي مَكْمَن الصَّلاحِ والفساد، يَحْرِصُ المُوفَّقُ على رِعَايَتِها، والعنايَةِ بِها وإِصْلاحِها؛ فقد رَأَى أَحَدُ الصّالحين العارفين بالله –وأحرِ بإبراهيمَ الخَوَّاص ما رأى- أَنّ دَوَاء القلبِ يكمن في خمسةٍ: قِرَاءَةِ القُرْآن تَدَبُّرًا, وخَلاءِ البَطن، وقيامِ اللّيل, والتّضَرُّعِ عند السَّحَر، ومُجالسةِ الصّالحين. إنّها خَمْسةٌ تَنْهضُ بالإنسان -إذا رَغِب- نَهضةً عُلويَّة تُحلّقُ به في المَلكوت، وإذا وَلَّى مُدبرًا؛ "تَعِس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".
ما أجملَ ما قال شوقي:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَارفَع لنفسكَ بَعدَ موتِكَ ذِكرَها
فالذِّكرُ للإِنسانِ عُمرٌ ثاني
فَرَمضانَ رمضانَ!
إنّه شَهرُ الرَّحْمةِ، والمَغْفرةِ، والعِتْقِ من النّار؛ مَنْ صَبَر فيه ظَفِر، ومَن صامَهُ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تَقَدّم مِنْ ذَنْبه.