إن الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا هو ثمرة مراحل طويلة من التجارب الفنية ، ونشأ في طوره الأول متأثرًا بإيقاعات الرقص والغناء ؛ لذا غلب عليه الغناء فهو شعر غنائي ، أو ممارسة طقوس دينية في المعابد كسجع الكُهَّان والتراتيل أمام الأصنام ، أو الأناشيد التي تنشد أثناء مَتْح ( استخراج ) الماء من الآبار ، أو النظم الحماسي الذي يقال في الحروب ، وليس من المستطاع تحديد نشأة الشعر الجاهلي ، فهي غامضة وليس بين أيدينا رواية صحيحة تكشف عن بداياته وزمانها ومكانها.
فما بين أيدينا من الشعر يرقى عهده إلى مائتي عام قبل الإسلام ، ولاحظ الجاحظ ذلك ، وقرر أن " الشعر حديث الميلاد صغير السنِّ ، أول من نهج سبيله وسهَّل الطريق إليه : امرؤ القيس بن حُجُر ومهلهل بن ربيعة ، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام ، وإذا استظهرناه بغاية الاستظهار فمائتي عام".
فالجاحظ يحدد عمرًا للشعر ، وهي ملاحظة ناقد خبير ؛ لأن ما قبل هذه الحقبة مجهول ، فبدائع الشعر وقصائده المكتملة الناضجة قد استوت قبل الإسلام بقرنين ، فقد سُبِقَ الشعراء المعروفون بشعراء قدماء ، فهذا امرؤ القيس يحاكي شاعرا اسمه ابن حذام في الوقوف على الطلل والبكاء عليه في قوله :
عُوْجَا على الطَّللِ المُحِيْلِ لعلّنَا
نبكي الديارَ كما بَكى ابن حَذَامِ
ويذكر عنترة أن هناك شعراءَ قد سبقوه ووقفوا على معانٍ شتَّى ، فلم يتركوا لِمَنْ خَلْفَهم معنًى يتناولونه في شعرهم ، يقول :
هل غادرَ الشعراءُ من مُتَرَدَّمِ
أمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ توهُّمِ
إن الشاعر القديم حينما ينشد القصيدة يغنيها بلحن موسيقي واحد عُرِفَ من بعدُ بالبحر ، ففيها تنغيم مكرر يتناسب مع المعنى الذي يعبر عنه وفيها قافية واحدة وروي واحد ، فهي منغَّمة موسيقيًّا ، ثم يدفعها للرواة كي يذيعوها في القبائل ، ولم يعرف الشعر العربي القديم الشعر الملحمي أو التعليمي أو المسرحي أو التمثيلي ، كما أنه تعبير عن ذات الشاعر يفرِّغ فيه عواطفَه وآراءَه بلا منطق فلسفي ، وقد عرفت عندهم أدوات الموسيقى ، مثل : المِزْهَر ، والصَّنْج ، والوَنّ ، والدُّفّ ، وكان بعض الشعراء بعد اكتمال قصيدته يدفعها لإحدى القِيان ( المطربات ) فتغنيها أمامه قبل نشرها بين الناس ، يقول حسان بن ثابت طالبًا من الشعراء أن يتغنّوا بشعرهم كثيرا لأن تكرار الغناء للقصيدة يسهم في تجويدها ونضوجها ، وذلك التكرار الغنائي يشبه المضمار الذي تتدرب فيه الخيل لتكونَ مكتملة البناء والقوة :
تغَنَّ بالشعر إمَّا كنْتَ قائلَه
إنَّ الغِناءَ لِهَذَا الشعرِ مضمارُ
ولعل هذا يفسر لنا أن كثيرا من الشعراء لا يعرف من علم العروض والقافية إلا اسمه لكنهم يعرفون كيف يغني شعره، فمصطلحات هذا العلم كثيرة دقيقة لكن إتقان التنغيم الموسيقي لأحد بحور الشعر العربي يكفي للتعبير عن وقع الوجود على الوجدان ، ولا يخرج عن دوائر التنغيم الشعر الحر لما فيه من لغة إيحائية وصور فنية وإيقاع غنائي وأي قول فني يدور في فلك غنائية الشعر العربي فهو شعر .