سألني إعلامي مغمور سؤالًا استنكاريّا لا يريد له جوابًا: هل أنت جدليّ؟
فأجبته: الناس نوعان: جدليّون وجدبيّون. فمن أيّ نوع أنت؟ قال بسرعة: أنا جدليّ إذن!!
ولكي أحدّد مصطلحاتي؛ الجدبيّ ليس "الأجدب" باللهجة الشامية، بل هو الفقير الذي لا يعطي كالأرض الجدباء!! أيّ أنه مُجْدِب أو جَدبيّ، فمن هم الجدليّون؟ ومن هم الجدبيّون؟
الجدليّون أوّلًا هم أفراد أو مجموعات تقدّم أفكارًا أو آراءً، غالبًا ما تكون جديدة أو مثيرة أو مستفزة أو منيرة أو حتى ظلاميّة.
أما الجدبيّون فهم من لا يقولون شيئًا، ويتبعون ما يقال لهم، طبعًا هذا التصنيف ليس حادّا، فهناك جدليّون بدرجة كاملة، وهناك جدليّون بدرجة عالية، وجدليّون بدرجة قليلة، وهناك من تتساوى لديهم الجدليّات والجدبيّات!!
عودة إلى الجدلييّن، فمن هم؟
الجدليّون مفكّرون تغييريون طرحوا فكرًا جديدًا. والجدليون ناقدون، رفضوا فكرًا ذائعًا منتشرًا. والجدليّون عقليّون في كل الأحوال، وهذا لا يعني أنهم ليسوا عاطفيين! إنهم محبون لفكرهم، مخلِصون للإصلاح، يضحّون بحاجاتهم الدنيا في سبيل الاحترام والتأثير والقيادة والإصلاح؛ لذلك يتعرضون، بالضرورة، لنقمة الجدبيّين.
والجدليون هم مفكرون وفلاسفة وشعراء، غير منافقين، بل هم أنبياء وباحثون، وكل هؤلاء طرحوا فكرًا جديدًا، قبِله بعض الناس ورفضه كثيرون .. ولسنا بحاجة إلى أن نذكر ما واجهه كل صاحب فكر، مهما كان اتجاهه.
أما الجدبيّون، فهم القانِعون، القابِعون، الجالسون، الخانعون، القابلون كل ما يقال لهم، وهم بالضرورة استهوائيون، تسهل قيادتهم. وبذلك يشكلون جمهورًا عريضًا واسعًا، يتحركون بالريموت، الذي يمسك به مختطفوهم، وغالبًا ما يتجهون رفضًا للجدليّين واستنكارًا.
الجدبيّون واثقون يقنعون بالوضع الساكن، الموروث من الماضي – وليس كل الماضي جمودًا -. أغلقوا باب الفكر والتفكير، واقتنعوا باكتمال الحياة، ولا حاجة لهم لجديد يأتي من الجدليّين.
وعبر التاريخ، تسيّدَ الجدليّون المسرح، وحوكِموا، وأعدِموا، وعُزِّروا، واتّهِموا. لكن عبر التاريخ، تقدّم العالَم بفكر الجدليّين، أمثال الفلاسفة، والمفكرين، والأنبياء، والباحثين.
نعم، تلقّى الأنبياء عذابًا واتهامًا من الجدبيّين، وتلقى الفلاسفة كذلك، بدءًا من سقراط وحتى الآن وفي المستقبل.
طالب عالم الكيمياء "لافوزييه" -أبوالكيمياء- مُهلَةَ أسبوعين، لتأخير إعدامه حتى يتسنّى له إكمال بحوثه!! فقال الجدبيّون: لا نريد الكيمياء اللّعينة، وها هم ينعمون بها الآن.
مَهَمّةُ التربية، من وجهة نظري؛ هي بناء شخصية باحثة، مجدّدة، ناقدة، منتِجة معرفيّا. لا شخصية قانعة تجترّ معلوماتها دون أن تأتي بجديد!!