السير والمذكرات: الارتزاق على حساب التاريخ!
جهاد المحيسن
29-03-2022 01:50 PM
تعلمنا في مختلف مناهج البحث التاريخي ، أن التاريخ علم يستند إلى قواعد وأصول ومناهج صارمة في تحليل الظاهرة التاريخية ؛ فقد نشأ علم التاريخ عند العرب من رحم علم الحديث، وتنبطق عليه ذات الشروط والأحكام التي تتعلق بعلم الحديث، ومفهوم علم الرّجال ما يسمّى علم الجرح والتّعديل هو: العلم الّذي يبحث في سيرة وأحوال رواة حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم، من حيث الصّفات التي تؤهلهم أن تقبل روايتهم بالحديث لعدالتهم وضبطهم ، أو أن تردّ روايتهم لصفات أخلّت في شروط رواة الحديث النّبويّ الصحيح.
فهل تنطبق هذه الشروط على من يكتب السيرالذاتية أو ما عرف " بالمذكرات"؟ المستندة إلى الروايات الشفوية من صاحبها الذي يُكتب له هذه السير أو يَكتبها هو ! فقد نشطت في العقود الأخيرة كتابة هذا النوع من السير الذاتية ، ووجد عدد لا بأس به من هؤلاء الكتاب الممتهنين لهذه الحرفة، التي في كثير من الأحيان تبتعد كل الأبتعاد عن الواقع الحقيقي وحركة التاريخ في الزمان والمكان.
إذ تجد في بعض هذه السير والمذكرات ، ما يؤكد أن محترفي هذه النوع من الكتابة ليسوا على دراية كافية بشروط الكتابة التاريخية ، والضوابط المنهجية لتناول الاحداث والاشخاص المكتوب عنهم ولهم ، ولذلك تكون المادة المكتوبة مادة منسلخة عن سياقها التاريخي الحقيقي ويكاد يكون من تتحدث عن هذه السير والمذكرات أشخاص خارقين للعادة ، ولا تنطبق عليهم شروط التاريخ ذاتها ، في مخالفات واضحة وخطيرة للواقع التاريخي من أجل تعظيم فلان ونيل حفنة من الدنانير التي تقلب التاريخ بما يخدم فكرة المكتوب عنهم.
ولابأس من الأشارة إلى تعريف ابن خلدون لعلم التاريخ في هذا السياق حتى نفهم معنى وجدوى ما يكتب ، وأنه على طرفي نقيض من واقع ، فالتاريخ عنده: "خبرٌ عن الاجتماع الإنسانيِّ الذي هو عُمْران العالم، وما يَعرِض لذلك العمرانِ من الأحوال؛ مثل التوحُّش والتآنس، والعصبيَّات، وأصناف التقلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعايش، والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران من الأحوال"، ويضيف ابن ابن خلدون في تعريفه لعلم التاريخ بأنه "في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيَّام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل، تنمو فيها الأقوال، وتُضرب فيها الأمثال، وتؤدِّي إلينا شأن الخليقة كيف تقلَّبت بها الأحوال، واتَّسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمَّروا في الأرض حتَّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق " مقدمة ابن خلدون.
بكل وضوح يشير أبن خلدون أن المعرفة التاريخية تقررها مسألتان جوهريتان هما: استيعاب العلّية ودقة الطريقة التاريخية المتبعة في كشفها، إذ بهما يتحقق الفهم الدقيق للتاريخ، ويتم تشكيل وبناء المعرفة التاريخية، ويتكون الوعي، وتتحقق الخبرة، وتتم فائدة الاقتداء، لأن التاريخ اكتسب من شروط العلم ما يكفي ليجعله لدقته من علوم الحكمة!
فهل ينطبق هذا على الكم الكبير من الكتابات التي تتناول موضوع الاشخاص ودورهم أذا كان لهم دور في حركة المجتمع وحقائق الواقع ؟ أم أنها لا تعدو غير حرفة "مخترعة" على حساب التاريخ للإراتزاق ؟
الواضح أن ما يُكتب بمثل هذا النوع من التاريخ الفردي " المذكرات والسير"، أوجدها متضخموا الذات لتزوير التاريخ الحقيقي وشهود العصر عليه، وإنها في جوهرها تغفل المجالين الزمني والمكاني، ولذلك تبقى كتابة قاصرة عن الكتابة التاريخية، ولكنها أيضا عمل خطير، فهي تزور الواقع والأحداث من أجل القول أن فلان كان شيء في تاريخ بلد ما ، بناء على روايات شفوية يمكن ببساطة دحضها بمجرد تتطبيق مناهج البحث التاريخي التي تحقق في الظاهرة التاريخية وصحتها !