حينما انتهت الحرب الباردة في العام ١٩٩١م بانهيار الاتحاد السوفييتي كدولة عظمى قررت الولايات المتحدة، وهي القطب الفائز في ذلك الصراع، بأن العالم يجب أن يدخل مرحلة جديدة خالية تماماً من المنافسة الجيواستراتيجية، وأن النظام الجديد يجب أن يؤسس على فكرة العولمة غير المبنية على مبدأ الربح والخسارة، وإنما على منطق الربح للجميع، بحيث ينفتح الجميع على الجميع في علاقة تحول العالم إلى قرية مترامية الأطراف متصلة بشكل غير محدود وبدون حواجز، مُنهيةً بذلك السيادة الثقافية للأمم والشعوب، هذه المعادلة لم ترضِ روسيا لأنها حولتها من قوة عسكرية ضخمة يمكن في حال استثمارها أن تكسب الكثير..
ومع مرور الوقت بدأ احساسها بالغبن يزداد يوما بعد يوم بسبب ضعفها وتراجعها عن باقي الأمم لذلك قرر الرئيس بوتين العودة الى المعادلة العسكرية التي قد تضمن له التفوق، وبالتالي مكاسب أكبر فاستعاد من ذاكرة التاريخ مبدأي مونرو وبريجنيف، والمتعلقين بالمجال الحيوي لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك، فأعاد إلى الواقع مبدأ الجيواستراتيجية وأسس غزوه لأوكرانيا على هذا المنطق، وهو بذلك يعلن بداية تحول عميق سيطال مجالات عديدة أهمها النظام الدولي الحالي والتمهيد لنظام دولي جديد وعودة حرب باردة شديدة الضراوة كما تنبأ بها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر.
لكن وفي الوقت الذي تدور فيه رحى المعارك الطاحنة على الأرض في أوكرانيا ثمة معارك اخرى تدور، ولكن بشكل صامت وساخط، فعناصر العولمة الرحيمة المبنية على الربح للجميع تحولت فجأة الى ما يشبه اللوياثان الرقمي (وحش بحري هائل بأذرع عديدة) فالبنوك وشركات النفط وبطاقات الائتمان فيزا وماستر كارد ومايكروسوفت وفيس بوك وتويتر وأنيستغرام وتيك توك وأبل وسلاسل ماكدونالدز وستاربكس وكوكاكولا وبيبسى وغيرها الكثير، ونظام سويفت المالى وأنظمة تبادل المعلومات الرقمية، أصبحت كلها أدوات في حرب واسعة النطاق لا تشترك فيها الولايات المتحدة وحدها وإنما جميع دول العالم، شاءت ذلك أم أبت فحتى الصين وجدت نفسها مضطرة للإنخراط في هذه الحرب بالذات بعد أن هددتها وزيرة التجارة الامريكية أنها ستفرض عليها عقوبات شديدة إن لم تلتزم بالعقوبات على روسيا، التي اصبحت الآن معزولة عن النظام العالمي وحتى لو فكرت في إنشاء نظامها الخاص فلن تستطيع لأن كل الانظمة لابد ان تمر من البوابة الأميركية على الأقل حتى الآن.
كل ما سبق قد يوصل العالم إلى حرب إلكترونية شاملة تطال الشبكة العنكبوتية في كل مكان وتؤدي إلى قطع تغذية الأوامر للبنى التحتية وجميع انظمة الحياة، مما قد يؤدي إلى دخول البشرية في حالة من الظلام الدامس، وتتوقف أنظمة ضخ المياه والسيارات والقطارات، ولن يستطيع الناس الوصول الى حساباتهم المصرفية وبطاقاتهم الائتمانية ويصبح النظام المالي والمصرفي في حالة شلل تام ستصاب جميع الشبكات بما يطلق عليه ألزهايمر الإلكتروني، هذا سيناريو متشائم لحرب إلكترونية ستدخل البشرية في دوامة من المعاناة لا يعرف أحد كم تطول، إذن النظام العالمي الحالي المبني على العولمة المؤسسة على التقنية العالية قادر على الدفاع عن نفسه ولو أدى به الأمر إلى خوض حرب عالمية بأدوات مختلفة هذه المرة عن الحربين السابقتين، لكنها تتماشى مع تعريف جوزيف ناي للقوة الناعمة والتي تعني بالنسبة له استخدام كل الوسائل المتاحة للتأثير على الآخرين باستثناء الاستخدام المباشر للقوة العسكرية، ويمكن هنا القول باستخدام كل الوسائل لحرب الآخرين باستثناء الاستخدام المباشر للقوة الصلبة، إذاً في خضم الصراع الدائر الآن في أوكرانيا لا يمكننا أن نستبعد أبداً نشوب حرب كونية ناعمة ولكنها مدمرة ستحول العالم من قرية كونية الى غابة كونية كما قال الكاتب اللبناني رفيق خوري، وما يرفع مستوى الخوف من هذا السيناريو هو كلام الرئيس الأميركي جو بايدن عندما حذر روسيا من خطورة إدخال العالم في حرب إلكترونية شاملة.
الرأي