بين حين وحين، نطالع في وسائل الإعلام المحلية أو العربية حكاية، تخاطب أعماق قلوبنا، وتهزّ وجداننا، ويجرفنا الحنين نحو مجد العروبة، ومكارم أخلاق العرب.
هذا ما قرأته مؤخرا عن الكاتب العربي السعودي عبد المحسن حليت مسلم، يرسم بدموعه وحرّ قلبه لوحة يعربية، تصور قصة حدثت في روما عام 1994م، حيث كان يجلس مع صديق له في أحد المقاهي يتطارحان هموم العروبة، فروى له صديقه أنّ شابّين سوريين يافعين كانا قد قدِما إلى إحدى العواصم الأوروبية للالتحاق بإحدى جامعاتها، وخلال إقامتهما في الفندق، وقبل إكمال إجراءات التسجيل، سُرق منهما ما معهما من مال، فعجزا عن دفع مستحقات الفندق، وهُدّدا بسجنهما.
علم السفير العراقي في تلك الدولة عَرَضاً بهذا الأمر، فتوجه إلى الفندق، ودفع المبلغ المطلوب من ماله الخاص، واصطحب الشابين إلى فندق آخر، وتكفّل بتكاليف إقامتهما ومصاريفهما إلى أن التحقا بجامعتهما.
وعندما علمت وزارة الخارجية العراقية، بعثت رسالة تبكيت وتقريع للسفير الذي تجرّأ وتجاوز الخلافات الناشبة آنذاك بين جناحي الهلال الخصيب "سوريا والعراق"، ولوّحت بمساءلته. فكتب السفير إلى وزارته الرسالة التالية المنقولة وفق ما أورده الكاتب السعودي:
( سعادة وكيل الوزارة المحترم،
تحية الأخوّة والزمالة ، وبعد،
إنني أدرك تماما الوضع الذي نحن عليه مع النظام السوري، وأنا، كسفير، ملتزم بكل اللوائح المعمول بها، وعلى دراية بكل ما يلزمني كسفير لدولة العراق.. لكنني أحبّ أن أذكّر الزميل العزيز أنني لم ولن أنسى أنني "عربي".
فخلال فترة شغلي الرسمي كسفير، لم أفعل شيئا تجاه هذين المواطنين العربيين السوريين. لكن حين تنتهي ساعات العمل الرسمية أنا أعود مواطنا عربيا أحسّ أنّ كل إنسان عربي في قلبي ووجداني، وذلك الوقت الذي قضيته في الوقوف مع هذين الشابين كان وقتي وليس وقت العمل، والمال الذي صرفته عليهما كان من جيبي وليس من جيب السفارة، فأنا يا زميلي العزيز موظف عند عروبتي قبل أن أكون موظفا عند حكومتي، وإذا كان فيما قمت به من تصرف يقلل من سمعة وشرف العراق، فإنني على استعداد لتحمّل كامل المسؤولية بما في ذلك استقالتي فوراً.
دمتم ودام العراق.
وجاءه الرد بعد أقل من ساعة على الفاكس، وبخط يد رئيسه صدام حسين، قائلا: "بيّض الله وجهك".
يصف الكاتب العربيّ الأبيّ تأثره البالغ بما سمع، ودموعه المنهمرة التي غادرت كلّ خيام الكبرياء.. وعندما عاين صديقُه ما أثاره حديثه من الأحزان والأشجان، أراد أن يخفف عنه فأخبره أن ذلك السفير، الذي ترك العمل منذ زمن، مقيم الآن في روما مع ابنته التي تدرس في إحدى جامعاتها، فألحّ الكاتب على صديقه أن يأخذه لزيارة السفير، فرُتّب أمر الزيارة على عجل.. ويروي لنا الكاتب أنه وقف بين يدي السفير قائلا قبل أن يصافحه: "سعادة السفير، المتشرف أمامك مواطن عربي من المملكة العربية السعودية، أنا يا سيدي لم آتِ إلى هنا لأشرب فنجان قهوة.. بل أتيت لأقبّل جبينك.. ولم يدعني السفير أُكمل، فانخرط في بكاء إلى أن أشفقتْ عليه ابنته "عفراء"، وأجلستْه على كرسي قريب.. ثم نهض وعانقني وهو ما يزال يُجهش وسط بكائنا جميعا.
مثل هذه الحكاية امتحان عميق لشعورنا بعروبتنا، وحاجتنا المصيرية إلى إذابة كل الحدود الوهميةــ على الأقل بين الشعوب العربية ــ لنعود إلى أصولنا ومنابتنا القومية، وروابطنا الدينية المقدسة، ونسعى بكل وعي إلى استنهاض اليقين بوحدتنا، عسى أن يكون لنا، يوما، مكان منيف تحت الشمس، ومنبر مهيب بين الأمم.