الأردن، مثل كثير من دول العالم والدول العربية، يواجه أزمة تؤرّق بال صناع القرار أو متّخذيه، وهي الارتفاع الحاد في أسعار السلع الاستهلاكية والإنتاجية في الأسواق، وانعكاسها السلبي العميق على رفاه الشعب عامة، ومحدودي الدخل خاصة.
وقد سمعت من بعض الوزراء المسؤولين في الوطن العربي، مثل الأردن ومصر وتونس والجزائر، وغيرها، مَنْ يؤكد على أن الحكومة لن تتسامح مع الذين يرفعون الأسعار إلى سقوف لا تستطيع جمهرة المستهلكين فيها أن تدفع أسعار شرائها بدون التضحية، إما بالكمية المستهلكة منها، أو بالاستغناء عن سلع أخرى.
وبالطبع، فإن استخدام كلمة "المفاجئة" ليس دقيقاً، فمنذ شهور يحذّر اقتصاديون وخبراء كثيرون من ارتفاع الأسعار العالمية، فقد بدا واضحاً أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، والتي بلغت ذروتها في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، قد أدت قبل 20 شهراً إلى حدوث أزماتٍ في المعروض من السلع.
وتعود الأسباب إلى التقطّع الذي حصل في سلسلة التزويد العالمية الناجم عن تراجع الكميات المشحونة من أسواق التصدير، خصوصا الصين، وارتفاع كلف الشحن والتأمين البحري. وقد شاهدنا تراجعاً في الكميات المنتجة من "المايكروشيبس" الداخلة في صناعات البوردات الإلكترونية التي تدخل في صناعة السيارات والطائرات ووسائل النقل الأخرى، والهواتف النقالة، والحواسيب، وغيرها.
ولمّا بدأت نذر الحرب الروسية الأوكرانية تطل برأسها في مطلع شهر فبراير/شباط الماضي، حين بدأ العالم يحسّ بوطأة ارتفاع الأسعار ويحذّر منها. ولمّا وقعت الحرب الأوكرانية بعد أسبوعين من بداية الشهر، وأعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها سلسلة إجراءات عقابية اقتصادية على روسيا، فقد بدأت أزمة النقص في بعض المواد الأساسية، والتهديد بإمكانية نقص بعض آخر.
وبفعل المضاربين وتجار السلع الكبار في العالم، ارتفعت أسعار السلع والخدمات ارتفاعات جنونية، مثل الحديد (50%)، والألمونيوم (60%) وزيت الطعام أو الطبخ (120%)، والنفط ارتفعت أسعاره إلى أكثر من 40%، ثم عاد واستقر قليلاً بسبب هبوط أسعار النفط الروسي. وقس على ذلك ارتفاع أسعار القمح (إلى 480 دولاراً وربما أكثر، مقابل أسعار تتراوح ما بين 250 و300 دولار)، وأسعار الأرز، والسكر، والذرة، وغيرها من الحبوب الرئيسية.
وكالعادة، تلجأ الحكومات إلى السياسة المجرّبة والفاشلة، وهي وضع سقوف للأسعار. وبالطبع، ينتج عن هذا انقطاع في بعض السلع، وبيعها في السوق السوداء. والحل الأفضل، ولكنه الأقل شعبية، منح مبالغ مالية لمحدودي الدخل من دون التدخل في آلية الأسواق.
ولو منعت الحكومات الاحتكار، والتخزين، والغش، والتطفيف، والتهريب، فستبقى الأسعار ضمن الآلية التنافسية للأسواق.
والمشكلة أن تجار الدول المستوردة ليسوا من يحدّدون الأسعار للسلع الغذائية الأساسية في أسواق العالم، بل تحدّدها أربع شركات عالمية يطلق عليها اسم تجار الحبوب. وقد سبق وكتبت عنهم، الأسبوع الماضي، في "العربي الجديد" بعنوان "تحالف الاحتكار مع الحكومات الكبرى". ولكن الحكومات العربية لا تستطيع شنّ حرب على هؤلاء، فتشنّها على التجار المحليين.
صحيح أن بعض التجار لا يخشى الله، ويزيد الأسعار أضعافاً، ولكن كثيرين منهم، خصوصا تجار نصف الجُملْة والمفرّق أي التجزئة، هم ضحية مثل المستهلكين. وتناقش الحكومات في حملتها على هؤلاء أن مبرّرات رفع التجار أسعار السلع في السوق المحلية في الوقت الذي ارتفعت فيه الأسعار العالمية ليس مبرّراً، وذلك لأن التاجر قد اشترى السلع التي لديه قبل ارتفاعها في الأسواق العالمية وبأسعار منخفضة.
ولكن هذا المنطق ليس قوياً، لأن التاجر سوف يضطرّ قريباً إلى استبدال المخزون الذي لديه بأسعار أعلى، وهو لذلك بحاجةٍ إلى بيع المخزون الحالي بأسعار أعلى.
الأمر الآخر أن الحفاظ على أسعار السلع القديمة، أي قبل الارتفاعات الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا، سوف يدفع المستهلكين إلى شراء كميات أكبر من حاجتهم، لعلمهم أن هذه الأسعار سوف ترتفع قريباً.
وهكذا يفقد السعر وظيفته الأساسية، وهي التوزيع بين الطالبين لتلك السلعة. ولمنع ذلك، تتدخل الحكومات في تحديد الكميات المباعة بالسعر قبل الرفع، ما ينشئ سوقاً سوداء كذلك.
والدول التي تربط عملتها المحلية بالدولار الذي ارتفع سعر صرفه أمام اليورو والجنيه الإسترليني، وغيرهما من العملات الرئيسية في العالم، سوف تواجه أسعاراً بعملتها أفضل لو اشترت من أسواق الدول ذات العملات الأقل سعراً من الدولار.
ولكن بسبب ارتفاع الفوائد على الدولار، واحتمالات ارتفاعها في المستقبل من قبل البنك الفيدرالي الأميركي، سيجد تجّار الدول التي تربط عملتها بالدولار أن كلفة الائتمان والسلف والقروض والاعتمادات المستندية والكفالات سوف ترتفع. وما قد يستفيدونه من ارتفاع في سعر العملة سوف يدفعونه على شكل كلف أعلى لتمويل شراء تلك السلع.
الحروب تشهد دائماً انقطاعاً في السلع وارتفاعاً في الأسعار. ولكن هذا العالم المترابط والمعَوْلَم يشتكي من الحمى إذا اشتكى عضو مهم فيها من ذلك. وأسواق البورصات، والعملات، والسلع، والنفط، والمعادن، والعملات الافتراضية أو المشفرة تشهد تخبطات وتغيرات سريعة ستنعكس على الأسعار باتجاه الصعود.
وماذا عن الدول التي لا تملك المال للشراء في الوطن العربي مثل لبنان، وسورية، واليمن، وإلى حد ما العراق، وتونس، والصومال، وجزر القمر، وموريتانيا، وإلى حد ما الأردن والجزائر؟
كان الله في عون الدول التي تعاني من حرب دائرة فيها ومنذ سنوات، ومن نتائج حرب في أوروبا لا ناقة لها فيها ولا بعير.
أما الحكومات العربية، فمعظمها يتخبط، ويخطط لمسافة لا تتجاوز حدود الأنف أو اليوم مكاناً وزماناً على التوالي. والمستقبل صعب، وينطوي على تحديات.
(العربي الجديد)