لم يعد الحديث عن النمو الاقتصادي المصحوب بالفقر والتهميش والبطالة اكتشافا جديدا، فالدراسات والكتب وتقارير المنظمات الدولية مثل البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) تبدو مشغولة بهذه القضية منذ عقدين من الزمان، فبرغم التقدم الاقتصادي ونمو النواتج المحلية والقومية للدول فإن نسبة الفقر والبطالة وتراجع مستوى المعيشة والتنمية البشرية تتزايد في الوقت نفسه، لتنشأ حالة جديدة ومرعبة تنذر بانهيارات وثورات اجتماعية وسياسية ربما لن تكون مختلفة في راديكاليتها وآثارها عن الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر.لكن الحديث عن الإصلاح والبديل يبدو غامضا، وغير ناضج، جماعات مناهضة العولمة والمنتدى الاجتماعي العالمي برغم أنها استقطبت تأييد الملايين وأنشأت شبكة من العمل لمواجهة "العولمة الاقتصادية الليبرالية" لكنها تبدو أقرب إلى الاحتجاج أكثر مما هي عولمة بديلة، والحكومات تبدو متجهة للانحياز والتبعية للطبقة الجديدة من رجال الأعمال والشركات العملاقة، والمجتمعات لم تدرك بعد أبعاد الأزمة على خطورتها وتداعياتها العميقة، والوعي المجتمعي وفي معظم الأحيان النخبوي يأتي متخلفا عن الواقع، ولذلك فإنه يتخذ طابع الفجيعة والتطرف.
قبل أيام كتب الوزير السابق للصناعة والتجارة سامر الطويل عن حالة خلل خطيرة في الاقتصاد الأردني وربما تكون حالة يمكن تعميمها في الاقتصاد العالمي، وهي أن قطاع البنوك والاتصالات يستحوذ على80% من الاقتصاد الأردني لكنهما لا يشغلان سوى نسبة ضئيلة لا تذكر من القوى العاملة الأردنية، وهو مثال صارخ ويمكن أن نجد عشرات الحالات والأمثلة الأخرى المشابهة والتي تعبر عن فجوة هائلة تتشكل في المجتمع وتنذر بالخطر، ويجب أن نؤكد مرة أخرى أنها مشكلة عالمية لا تكاد تستثنى منها دولة، ويعتبرها بريجنسكي واحدة من أهم التحديات العالمية التي يجب أن تتصدى لها الولايات المتحدة بصفتها قائدة العالم، ولكن المشكلة أن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن هذه الحالة الخطيرة، بل وتحميها وتفرضها على العالم.
الكثير من السياسات والتشريعات التي تعاملت مع الحالة الجديدة برغم أنها تبدو إلى حد ما تحل الأزمة فإنها تساهم في تفاقمها، مثل إلغاء قوانين حماية العاملين وتعويم العقود والأجور والضمان والتأمين والفصل من الوظائف وتحييد النقابات العمالية والمهنية، ولكن النقابات لدينا اختارت هي متطوعة أن تحيد نفسها وانحازت ضد مصالح منتسبيها، ولا تجد من الشجاعة سوى مطالبة الحكومة بإنصاف العاملين لديها، وكأن العاملين في القطاع الخاص يتمتعون بوضع أفضل، أو اكتفت بمقاومة وهمية لتطبيع غير موجود أصلا أو الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج! أما النقابات العمالية فتبدو في حالة غيبوبة ونشوة لا تصدق بسبب مشاركة قادتها في الاحتفالات والمؤتمرات الدولية(الله يطعم كل مشتهي).
ستكون أكبر ضربة توجه للطبقات العاملة والوسطى في المجتمع هو شغل المعارضة وبقايا مؤيدي مرحلة دور الدولة السابق للشتم العميق والذكي للعولمة والليبرالية الاقتصادية مع المشاركة الكاملة فيها، ولكن العمل العام المجتمعي والرسمي والخاص بحاجة للبحث والتفكير في الجمع بين تحقيق العدالة الاجتماعية ورفع مستوى التنمية البشرية وبين الاستمرار في النظام الاقتصادي الجديد لأن التخلي عنه لا يبدو واردا أو مطلوبا، وهذه الفكرة ليست اختراعا جديدا، ولكنها موضع كثير من البرامج السياسية والانتخابية لأحزاب وقيادات سياسية وفكرية، مثل شرويدر المستشار السابق الألمانيا، وكلينتون الرئيس السابق للولايات المتحدة، الذي ربما يكون أكثر رؤساء الولايات المتحدة ذكاء ومثالية اجتماعية.
المسألة ببساطة هي كيف تدار الضرائب والموارد العامة باتجاه الاحتياجات والأولويات الحقيقية للمجتمعات والمواطنين؟ وكيف يطور نظام الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي ليكفل لكل مواطن الحق في تقاعد مجز وفرصة كافية للعلاج؟ وكيف ينظم ويدار التنافس على الأعمال وفي السوق وفي المجالات المهنية بعدالة تحقق الإبداع والتطوير والنجاحات والمبادرات الفردية والمؤسسية؟
فالتراجع في مستوى المعيشة والرفاه لا يعود فقط إلى الفجوة الاقتصادية وعدم المساواة في توزيع العائدات الاقتصادية، ولكن أيضا إلى العمليات والسياسات التنظيمية والإدارية التي تحكم العمل والمهن والسوق والحرف والإنتاج.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo