المجهول في الأزمة الأوروبية
علي الزعتري
23-03-2022 01:43 PM
لم يترك ڤلودومير زيلينسكي عند أغلبيةِ العرب انطباعاً إيجابياً منذ البداية لكنه بخطابه للكنيست الصهيوني عبر حدود أي تعاطفٍ معه و المؤسف كان قرنه مأساة أوكرانيا بالمحرقة فخسر اليهود و خسر العرب! هو يخاطب من يعطيهِ مسرحاً و مطالبه تنقسم لرجاءٍ بضم بلاده للناتو مما يعني دخول الحرب دفاعاً عنها و دعوةٍ للكراهية ضد ما هو روسي. يفشل في الأولى و ينجح في الثانية. و هو يرجو بحرارة لقاء ڤلاديمير پوتين من زاويتين. كمُعْجبٍ بائسٍ و كحاقدٍ بنفس الوقت. الإعجاب بقوة غريمه، و ربما الرغبة بالتشبه به؛ و الحقد على التعالي الذي يمارسه پوتين عندما يتجاهل الالتقاء به. ڤلودومير وصل لحد توسل هذا اللقاء وتعليق حدوث الحرب العالمية على عدمِ انعقاده أو فشلهِ إن حصل. و يعتمدُ زيلينسكي في طلبهِ على معطياتِ حقيقية و مُتَخيلة. الحقيقية هي في عدم اكتساح أوكرانيا لهذه اللحظة، وهو للأغلب راجعٌ لمقاومة الأوكران و لتكتيك الروس في انتقاء الأهداف، و المتخيل هو في الظن أن لأوكرانيا مستقبلٌ كما كانت حين تضع الحرب أوزارها. وپوتين ينظر له و لأوكرانيا نظرة القائد الاستراتيجي الذي يرسم حدود العالم الجديد وعنده أن زيلينسكي ليس إلا ممثلاً هامشياً و أن أوكرانيا كبلدٍ مصيره الأفضل هو الحياد.
لكن الحقيقة والخيال يعكسان تغييراً لن يمكن التعامل معه بطبيعيةِ أو زيفِ ما كان قبل الحرب. لقد مَثَّلَّ الروس و الغرب مسرحيةَ تعايشٍ فيما كان الواقع يَضِّجُ بالشك و الخطط السرية. و الآن أنتهت المسرحية فأن أوروبا القارة دخلت عصر الحرب مع روسيا وهي محتميةٌ بالناتو، الذي يعني الولايات المتحدة. و من الآن و صاعداً فإن الهدف الساطع المُجاهَرُ به سيكون عملَ الغرب لتغيير روسيا وما ستفعله روسيا لتفتيت هذا العمل. لن نتوقعَ كياسةً من الجانبين. و ستكون الساحة الرئيسية هي أوروبا و مناطق النفوذ التقليدية حول روسيا لكن كذلك كل منطقةٍ في الأرض و الفضاء يمكن أن تُشكل وسيلة ضغط. إنه صراع المحاصرة و المحاصصة الكوني.
كان جون بولتون و رئيسه الأسبق دونالد ترمپ ملتزمين بالعجرفة داخل و خارج العمل الرسمي تجاه الصديق و العدو و إن اتسم ترمپ بالإعجاب بپوتين واتسم بولتون بتناول روسيا على أنها والصين العدوان اللدودان. ثم افترقا و تبادلا النقد. عندَ بولتون، ترمپ لا يفهم بالسياسة و لقد وثَّقَ رأيه بكتابٍ حاول ترمپ منع نشره. و عند ترمپ فإن بولتون جاحدٌ متفذلكٌ و أكاديمي لا يفقه بالتعاملات عالية الأهداف. لكنهما اليوم يلتقيان في تكوين النزعةِ المتطرفة لمناوئي روسيا و المناديان باستخدام القوة ضدها. ليس التهديد و لكن القوة الفعلية. فكلاهما ضد بايدن و كلاهما يريان في أوكرانيا جسراً لا يمكن تفويته لإعادة الجمهوريين للبيت الأبيض. الجمهوريون، الذين نادى واحدٌ من زعمائهم باغتيال پوتين، لم يكفوا عن نقد بايدن و نائبته متهمينهُ بالخرف و هي بالغباء. فماذا سيكون موقف الديموقراطيين و هم يُتهمون بالتهاون في إدارة الأزمة و الضعف في ردع روسيا و التسبب بمشاكل اقتصادية متنوعة داخل الولايات المتحدة ليس أقلَّها انتقاد بايدن لشركات النفط لعدم تطوير القطاع و تمكينه ملأ الفجوات مثلما الحال الآن؟ لا بُدَّ في لحظةٍ ما أن يستأسد الديموقراطيين اضطراراً ضد روسيا إن فقط ليبقوا في سدة الرئاسة. هذا الاستئساد قد يجر العالم للكثير الأسوأ مما نشهد. و سيتطلب كسر روسيا أكثر بكثير من الحصار والعقوبات التي لتأخذ مفعولها، إن نجحت، ستتطلب سنواتٍ أبعدَ من الاستحقاق الرئاسي الأمريكي القادم و ستكلف حول العالم مصاعبَ من كل نوع. لن يكون ممكناً حجب أمريكا عن هذه المصاعب و حالما تصل للبيت الداخلي الأمريكي فستكون الفرصة الذهبية للجمهوريين لسحق الديموقراطيين. هل نقول أن وقف روسيا هو الحرب المفتوحة؟ ييدو الأمر كذلك و لأسباب انتخابية أمريكية بحتة. لن يفوز الديموقراطيين دون هزيمة روسيا و لن يستطيعوا هزيمتها بالعقوبات و إن فاز الجمهوريون فسيأتون على نغمةِ الأمن القومي التي تعني الحرب.
في الأثناء نحاول أن نلتقط في الاندفاعة الروسية نمطاً يمكن من خلاله تفسير خراب أوكرانيا بهذا الشكل وتشتيت شعبها. أو تفسير أخذَ العالم للشفير النووي. ألم يكن ممكناً اللجوء لوسائل أقل تخريباً؟ أم أن روسيا قدّرت أنها غزوة سريعة فخاب التقدير؟ أم أن الهدف كان هذه الهجمة التي تقلب كل الأحجار خالقةً فوضى أوكرانية أوروبية عالمية و تمنح روسيا اليد العليا؟ لكن كيف يمكن في ساحة المعركة الفعلية و أمام السيل المنهمر من العقوبات و أشكال الحظر، كيف يمكن لروسيا ضبط النسق الفوضوي لصالحها؟ و كيف سيكون الوضع مع تطوير الردود الغربية و مع الاستئساد الأمريكي المتوقع؟ و كيف كذلك و حلفاء روسيا يبدون عاجزين اختياراً و بالضغوط عن مجاراة التوقعات بدعم روسيا؟
الواقع أنني و كثيرون غيري نري في الغزوة الروسية خطأً مريعاً. يساويه في ذلك الخطأ المتراكم من الغرب على حدود روسيا. أهي الطبيعة؟ هل هي من أساليب الغرب الضغط بلا هوادة إلى ما لا نهايةٍ نراها و بكل إمعان الراغب في الإيذاء و لكن دون العمل العسكري المباشر؟ و هل هي طبيعة الروس أن يغضبوا و ينتفضوا دون رويةٍ في معرض ردهم؟ بغض النظر، فالأذى حصل و يحصل. و سيبقى السؤال الذي لا يجدُ إجابةً لكل الحروب هو من البادئ. لكنها الحربُ قد اشتعلت و أفرزت ويلاتها على الناس العاديين الذين لا يهمهم بايدن أو بوريل أو پوتين أو زيلينسكي. بل يهمهم أن يعيشوا و يتطوروا و يأمنوا على حياتهم. لكن هذا كله انقلب الآن و لن يعتدل إلا بعد سنين عديدة.
كثيرٌ من البلدان لا يجدُ في الحرب إلا فرصةً لتعديل موازين العالم لكنهم لا يستطيعون التكهن بالنتيجة. و قد يفسر هذا التردد في إظهار النوايا باستثناء تلك المتعلقة بمناشدة وقف إطلاق النار و غوث الناس. هناك رغبةٌ برؤية عالمٍ لا يدارُ من المكتب البيضاوي و لا الكرملين لكن ليس هناك رغبةٌ في الوقوع في براثن التحزب بين شرقٍ و غرب. و لا وجود للآن لمساحةٍ بين الإثنين. و قد يبعث هذا الوضع المهتز و الانشغال الكوني، قد يبعث فعلاً الرغبة لخلق مراكز قوى إقليمية أو تكتلات من قوى متحالفة لفرض جغرافيا جديدة. المحصلة للآن هي الاتفاق الضمني على الانتظار. كيف ستنتهي المعركة و لصالح من وعندها سيكون لكل سيناريو لنهاية الحرب سيناريو مقابل لبداية عالمٍ مختلف. المقبول اليوم من الفرضيات هو أنه صراعُ المصائر و أنه لن ينتهي بسهولة و لن ينتج منه تعايشٌ محايد و تبادل للمنافع بل تنافس و تآمر و اقتناص فرص و دعوات تدمير.