طارق متري والذاكرات اللبنانية
د.مهند مبيضين
14-08-2010 05:36 PM
قبل أيام قدم وزير الإعلام اللبناني طارق متري، في الجامعة الأردنية، محاضرة لقيت اهتماماً استثنائياً وجاءت بعنوان «ذاكرة السياسية وزمن الإعلام".
للوهــلة الأولـــى بدا وكــــأن الرجل سيتحدث من منطلق ذاتي، ومن خلال التجربة الفردية، ولكنه جــــاء بعكس ذلك. فقد حمل معه وبصـــورة غيــــر مباشرة تشخيصاً لواقع بلده، وصــــورة دقيقة لأسبـــاب التوتر، مع حضور كثيف للتاريخ - العبء، كما سماه قسطنطين زريق، في المشهد اللبناني.
استشهد متري بمقولة لأحمد بيضون القائلة «بأبهة التاريخ المنفصل» في تعامل طوائف لبنان مع المشروعية، أو في الرغبة التي تصل حدّ الجموح والهيمنة على الذاكرة الجمعية، وذلك في سبيل الطموح الواثب للاستيلاء على "منابع المشروعية".
أقر متــــري بوجود ذاكرات لبنانية، وليس ذاكرة واحدة، وفي سبيل انفراد أي ذاكرة أو هيمنـــــة أي منها علــــى الوعي الجمعـــي يـــجري دومــــاً الاستعانــــة بالتاريخ، لكي يمنح هذا الـــــطرف أو ذاك نشوة التفوق ويحقق الإرضاء الذي تبحـــث عنه كلّ طائفة أو جماعة سياسية وظلّ هذا السعي يشكل "موضوع الصناعة الأول".
في ثنايا محاضرة متري كان بوسع المستمعين أن يذهبوا وراء جمال النص، وضبطه المحكم، وترتيب الكلام الذي بحث في مجمله عن غاية نبيلة ولو لمجرد الحلم القاضي بوجود وطن تحل الديموقراطية همومه وتخلصه من الكراهية وتنتزع من الواقع توتره و "تغير الحكومات دون اللجوء إلى العنف".
الذاكرة التي مال إليها طارق متري، ذاكرة الأيـــام العاديــة، قوامها العقليات الأحاسيس وطرق العيش وتبادل الأفكار وتاريخ المهمشين، وهذه الذاكرة أفضل من ذاكرة النهار السياسي بلغـــة ريجيــــس دوبريه، وهي ذاكرة برغم أنها آنية، إلا أنها محكومـــة بالماضـــي ولا تفارق، تستدعيه كلما لاح برق الخصوصيات الهوياتية بالظهور.
وهنا فإن أحداث الماضي "تلعب معنــــا أحيانـــــاً لعبة خبيثة، لا نفلــــت منها إلا بجهد كبير، ذلك أن الذاكـــرة المــــجروحة والمكبوتة غالباً ما تؤدي إلى الغلو في ردات الفعل على أحداث الحاضر".
ولكي نتجاوز عبء الماضي لا بد من عقلنة الالتفات إليه، وبحسب متري فإن «النخب السياسية في الأنظمة الديموقراطية، لا تحتاج لتوظيف الذاكرة في خدمة المشروعية، بالقدر نفسه على الأقل"، مشيراً إلى أنها "أقل اضطراراً للالتفات صوب الماضي لبناء المستقبل، ولو أنها لا تستطيع إغفاله".
لفت متـــــــري إلى أن "الديموقراطيات تقيــــم مشروعيتها لا على الانتخابات فحــــسب، بـــل علــــى نصـــوص تأسيسيــة من الماضي، مثل الدستـــــور، الــذي هــــو جــزء من الذاكرة المشتركة وإرادة العيش معاً، حسب قواعد متفق عليها".
لكن في حالة لبنان فإن المدونات التأسيسية السياسية من مثل الميثاق الوطني أو نظام جبل لبنان أو الدستور، وغيرها، والتي كان مأمولا لها أن تسهم في بناء الديموقراطية، وتعزز المشاركة العقلانية المنصفة للسلطة، لم تقم بالدور الكافي لتسجيل حدث ولادة الديموقراطية على غرار حدث «الماغنا كارتا» أو إعلان المشروطية العثمانية مثلا.
اللافت أن لبنان لم يخرج، بعد كـــل نكباته، متحداً، فقـــد أبقـــــى التوتـــــر الذهني والثقافي على حضور الخصوصيات الكثيف الذي حول البلـــد مـــن "نظـــام مستقر وتابع إلى نظام مستقــــل وغــير مستقـــر". ولبنان الذي شكل بوتقة لأفكار العدالة السياسية وساهم نفر من أبنائه في صياغة الدستور العثماني قبل أكثر من قرن. لا زال عالقا في البحث عن الدولة المستقلة الديمقراطية.
مع كل ما في خطاب متري من حزن خفي على ما آل إليه واقع لبنان، إلا انه بدا متمسكاً بالأمل والحوار الداخلي لإحلال مصالحة لا تكون مأسورة بذهنيات الماضي بقدر ما تكون منفتحة على المستقبل والغد الأفضل.
(الحياة اللندنية)