الحرب في أوكرانيا إعادة قراءة نظريات العلاقات الدولية
سعود الشرفات
21-03-2022 06:12 PM
شكلت الحرب في أوكرانيا مختبرا لفحص كل المقاربات والنظريات في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وحتى السياسة العالمية بما فيها العولمة.
وقد لاحظت - وقد اكون مخطئا- ان هناك احتفالاً بمقاربات النظرية الواقعية بكل ما فيها من سرديات مغرقة في القدم منذ تنظير ثوسيديس التأسيسي للحرب، باعتبار ما اقدم عليه بوتين من شن للحرب ضد أوكرانيا ما هو إلا تعبير عن شعوره العميق بانعدام الأمن تجاه الغرب.
بدون الدخول في التفاصيل الدقيقة لتفرعات النظرية الواقعية المعاصرة ، تبقى وحدة التحليل الرئيسة في صلب النظرية هي "الدولة" - الدولة القومية - كصاحبة القوة القهرية الوحيدة في تحليل تفاعلات النظام الدولي.
ولعله من هنا جرى الاحتفال بالنظرية الواقعية كأفضل نظرية تفسر سلوك الدول تجاه خوفها، وشعورها بانعدام الأمن وايمانها القوي بالقوة أو توازن القوة على أقل تقدير. وقد جاء سلوك بوتين الحالي ليعبر عن هذا "الاتجاه العام" في النظرية.
كما انه من المثير للانتباه ان هناك حالياً اتجاه في الولايات المتحدة الأمريكية تجلى في بعض وسائل الإعلام والصحف والمجلات الرصينة اخذ يتحدث علنا عن نظرية الاحتواء التي ظهرت في أجواء الحرب الباردة.
في مقال في مجلة الـ"فورين بولسي" 12 آذار (مارس) 2022 قال الصحفي الأمريكي مايكل هيرش: إنّه سواء انتهى غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا في أيّ وقت قريب أم لا، فإنّ المؤكد هو كراهية الرئيس الروسي الدائمة وعدم ثقته في الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، والتي يعتقد أنّها لم تترك له خياراً سوى شنّ حرب غير مبررة.
ومعلوم في أدبيات الحرب والعلاقات الدولية ان الحرب البولبونزية التي حدثنا عنها ثوسيديس كانت كانت نتيجة لانعدام الأمن والشعور بالقوة وأشياء أخرى يضيق البحث عنها هنا.
ويضيف هيرش أنّ عداوة بوتين تستحق التحقيق بعمق، حتى لو كان ذلك فقط لفهم السبب الذي يجعل واشنطن والغرب يواجهان بشكل شبه مؤكد "صراعاً طويلاً" آخر مع موسكو ـ على حدّ تعبير الرئيس الأمريكي السابق جون كينيدي ـ ينافس الحرب الباردة التي استمرت (45) عاماً.
أن عداء بوتين للغرب حكاية مركّبة من تاريخه الشخصي والمهني ومن تاريخ روسيا نفسها أو قراءته الشخصية له كما اسلفت.
إنّ العداء الدائم لدى الرئيس الروسي تجاه الغرب هو حكاية معقدة، مركّبة من تاريخ بوتين الشخصي البالغ من العمر (69) عاماً عندما كان طفلاً في الحرب العالمية الثانية ورجل مخابرات سوفياتياً محترفاً، يخدم في ألمانيا الشرقية، الرجل الذي شهد الاتحاد السوفيتي يتداعى وينهار أمامه في أكثر المشاهد مأساوية في القرن العشرين على حد وصفه. فضلاً عن تاريخ روسيا نفسها المتشابك الذي يمتدّ إلى (1000) عام، أو على الأقل قراءة بوتين الشخصية ومقاربته لهذا التاريخ ،خاصة بوجود منظر جيوسياسي بحجم ألكسندر دوغين الذي تأثر بلنين وستالين وهالفورد ماكيندر ونتشيه واوسفلد شبينغلر.
في عمق المشهد المعقد اليوم، يبدو أنّ بوتين، والعديد من المسؤولين والنخب والباحثين الروس ذوي الميول اليمينية الذين يدعمونه، لا يريدون أن يكونوا جزءاً من الغرب ونظام القيم الليبرالي بعد الحرب فحسب، بل يعتقدون أيضاً أنّ مصير بلادهم هو أن تكون حصناً قوياً ضدّ هذه القيم التي تحرّكها العولمة.
ربما من هنا يمكن لنا فهم عمق العداوة بين بوتين والغرب الناتجة عن محرك الخوف المتبادل من الآخر، من خلال تأكيد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان يوم الأحد 13 آذار (مارس) الجاري عندما قال: إنّ أيّ هجوم روسي على أراضي حلف شمال الأطلسي سيؤدي إلى ردٍّ من الحلف. وقال سوليفان (في برنامج واجه الصحافة): "لقد كان الرئيس بايدن واضحاً مراراً وتكراراً بأنّ الولايات المتحدة ستعمل مع حلفائها للدفاع عن كلّ شبر من أراضي حلف شمال الأطلسي، وهذا يعني كلّ شبر".
واظن ان حديث سوليفان عن "الحلفاء" الذي قد يبدو للبعض وكأنه تجلي للنظرية الليبرالية المؤسسية ؛لا يتجاوز في حقيقته النظرية الواقعية.
المهم ؛ انه بعد 75 عاماً على نظرية" الاحتواء المزدوج" الدبلوماسي الأمريكي الشهير جورج كينان، ونهاية الحرب الباردة يبدو أنّ أمريكا تعود إلى الاحتواء للتعامل مع روسيا.
لا شكّ أنّ المشهد اليوم يبدو معقداً جداً؛ وأكثر تعقيداً من مجرّد التعليق الصحفي اليومي على وسائل الإعلام ومحطات التلفزة. بالنسبة إلى خبراء وعلماء السياسة وتاريخ الحروب هذه الحرب ما زالت في بدايتها، وبالتالي من الصعب تصنيفها ومعرفة نوايا الأطراف الفاعلة فيها وكيف ستنتهي.
تقول مجلة "الإيكونوميست" 14 آذار (مارس) الجاري: إنّ الغرب كان يتمتع بخبرة طويلة في إبقاء قوة معادية في أوروبا الشرقية بعيداً دون اللجوء إلى الحرب. في عام 1947 جادل جورج كينان، الدبلوماسي الأمريكي الشهير، ومهندس سياسة الاحتواء في العلاقات الدولية، في مقال مجهول في مجلة "فورين أفيرز"، بأنّ عداء روسيا كان نتاجاً لانعدام أمنها، ومع ذلك فإنّ سياستها الخارجية ستستجيب مع ذلك لـ "منطق وخطاب القوة".
لذلك يجب على أمريكا أن تتبنّى "سياسة احتواء حازمة، مصممة على مواجهة الروس بقوة مضادة لا يمكن تغييرها في كلّ نقطة يظهرون فيها علامات على التعدي على مصلحة عالم سلمي ومستقر"، وقد أصبحت هذه النظرة أساس استراتيجية أمريكا ضدّ الاتحاد السوفييتي طيلة الحرب الباردة.
ما الذي تغيّر في استراتيجية الاحتواء؟ يبدو أنّه لا شيء، لماذا؟ لأنّه بعد (75) عاماً على نظرية جورج كينان، ونهاية الحرب الباردة، يبدو أنّ أمريكا بايدن تتمسك بالنظرية الواقعية؛ والاحتواء للتعامل مع روسيا.
وكما أكدت مجلة "الإيكونوميست": "الاستراتيجيّون الغربيون يُعيدون تعلّم دروس الحرب الباردة، وأمريكا تعود إلى استراتيجية الاحتواء المزدوج.
أعتقد أن المشهد اليوم أكثر تعقيداً من مجرّد التعليق الصحفي اليومي على وسائل الإعلام ومحطات التلفزة، ويحتاج الكثير من الدراسة والتحليل، فالحروب والصراعات والأزمات تبقى افضل مختبر لفحص معتقداتنا وافكارنا ونظرياتنا لفهم تفاعلات المجتمع الدولي والفاعلين فيه لفهم كيف يفكرون ولماذا يقومون بافعال تبدو غير منطقية لنا.