التسول .. هل أصبح ثقافة وطنية ؟!
فايز الفايز
01-07-2007 03:00 AM
كنت جالسا على مقعدي ، راميا بيدي على طاولتي ، أصابعي تحاول لملمة أجزاء رأسي المتناثر إحساسا ، بين فكرة وأخرى ، بين إضاءة وإعتام ، بين يأس وتفاؤل .. حتى فاجأني صديق قديم جديد ، جاء مهرول القلب نحو الوطن الأجمل .. ظاناً ان الحكومة تبني سرادق في ساحات المطار ، أو على طريقه باتجاه عاصمة الحب الليلكي ، ترحيبا بأبناءها المغتربين ، وبالعائدين من طاقات وخبرات وعلماء واساتذة البلد ، ممن إضطروا ولم يجبروا على الإغتراب عملا ، خارج بيوتهم ، تاركين أطفالهم وزوجاتهم وأهلهم ، ليتحمصوا على نار الغربة والبعد ، والتعب ، كي يؤمنوا لقمة الخبز ، لتلك الأفواه الفاغرة ، ولتلك القلوب الموجوعة .ظن صديقي ان " الجماعة " تهتم لأمرهم ، وتقيم وليمة بمناسبة عودتهم سالمين غانمين محملين بالشوق وهدايا العواطف لتراب وطنهم الذي تلوث بالإسمنت الأسود . خاصة إنهم استثمارنا الوطني خارج البلاد ، وتحويلاتهم المالية تصل الى ملايين الدنانير سنويا .
المهم .. قبلت الصديق الذي يعرفني ويعرف بلدي أكثر مني .. وبعد سين وجيم ، ومجاملات لا تؤدي الى معنى ، وشكوى الحياة التي لا تحل إلا بطمرها تحت التراب .. سألته كيف شفت هالبلد ؟ .. فاسترسل بالحديث قائلا :
عندما هبطت الطائرة في المطار ، شعرت بذات الإحساس الجميل ، ولأنني أتوق الى الوصول الى أهلي ، أسرعت الخطى نحو بوابة الخروج ، فتلقفني شاب يدفع أمامه عربة لتحميل الحقائب ، حيث شعرت إنني شخص مميز ، خاصة عندما علمت إن هذه الخدمة شبه مجانية ، وفي الطريق نحو الخروج بدأت الأسئلة من الشاب ، لتصب الفكرة النهائية ، انه عازب وعاطل عن العمل ولم يجد غير هذا العمل ليقوم به ، وهو بالكاد يكفي مصاريف تنقلاته ، مما دفعني الى إجزال العطاء له ، لأنه أول شخص من وطني يتحدث معي وهو يخدمني ، ولا أخفيك ـ والحديث في مجمله لصديقي ـ إنني شعرت بالغبن ، لأنني دفعت مالا طائلا مقابل خدمة لا تساوي جهدا كبيرا ، ولكن قلت في نفسي " يلله كلها عشرين دينار " .
أوصلني الشاب الى البوابة الخارجية ورمى حقائبي على الرصيف ، فتلقفني سائق تكسي ، وبدأنا رحلة عمان ، التي بدأها بدعاء يارب ، ليستمرفي شكوى وتذمر من الوضع المعيشي لأسرته ، ولباقي الأسر المشابهة له ، حتى كدت أفقد شهية الوصول الى مدينتي ، وعندما وصلنا الى الدوار السابع ، سألني .. وين بدك تروح بالضبط .. قلت له وجهتي ، فقال .. آه طيب ، لأنه الأجرة تختلف على هيك .. ولن أشرح أكثر ، فقد وصلت الى البيت ، ودفعت ضعفي الأجرة المعروفة تحت طائلة إرتجاف الدموع في عيني السائق .
.. وفي البيت ، تلقفتني الزوجة والأولاد .. بالأحضان والزغاريد والقبل ، وبعد سويعة ، بدأت الزوجة بفتح حقائبي ، لتسأل .. شو ؟ جبت لأمي اللي حكيتلك عنه .. و .. و .. و .
نمت كما لم أنم من قبل ، تلك الليلة ، وفي الصباح وجدت جاري " أبو معروف " على باب البيت ، مرحبا ، مصهللا ، بكلمات الترحيب والتفخيم ، متشبثا بحق الجيرة ، سببا في دعوتي الى وليمة ، وسرعان ما تهللت أساريره لرفضي القاطع ، بسبب ضيق وقت إجازتي ، ثلاثة أيام ، ضاع أولها في الطريق ، وكما يعلم الجميع ، فأن إخواننا الخليجيين يتعاملون معنا وكأننا عبيد ، والإجازة أعطيت لي بعد تذلل ، مع إنني أحمل شهادة الدكتوراه ، والأستذه قبلها في علم الأخلاق وفن التعامل والأمانة ، ومديري ، لا يستطيع ان يقرأ جملة في صحيفة دون ان يخطىء فيها .!
فرد الجار الطيب الجواب ، بطيب ماشي .. بس المرة الجايه ، مارح تفلت مني .. فوعدته خيرا ، وسألته عن الأحوال ، فسرد لي قصص وهموم تنوء عن حملها الجبال ، وقبل ان ينتهي علمت مدى حاجته المادية ، حيث أنهى الحوار بطلب خجول ، بعض من مئات من الدنانير ـ قرضة الله حسنة ـ ليكسب مني نصف ما طلب خجلا!
وحتى أكسب الوقت ، قبل زيارات الأرحام ، توجهت بالتاكسي الى دائرة لأنهي المعاملة التي جئت من أجلها ، فكان نصيبي مع السائق ليس بأفضل من نصيبي البارحة على طريق المطار ، وحين دخلت الى الدائرة قال لي الموظف بقرف ، وين الإستدعاء .. أجبته : أي استدعاء ، أليس المفروض ان يكون هناك نموذج خاص من قبل دائرتكم .. فأجابني وهو يشيح بوجهه عني نصف إشاحة ،.. روح فيه كاتب استدعاءات بره ، هو يقولك شو بتعمل .
عدت الى الخارج لاهثا ، باحثا عن الكاتب ، فوجدته ، جالسا مقرفصا وراء طاولة حديدية قديمة صدئة ، مليئة بالأوراق البيضاء ونسخ من ورق الكاربون ، وأذا به هو من تشبث بي صوته مناديا علي قبل الدخول ، وكأنه يعرفني منذ زمن ، غير انني لم أحفل به قبلا ، فعدت له مجبرا ، فحرر لي معلومات الأسم في استدعاء مطبوع الصيغة سلفا ، خلال دقيقتين ، وبالطبع سألته .. كم تؤمرني .. أجاب مجاملا بكذب .. خليها علينا مش مستاهلة .. قلت له .. لا عمي تسلم والله .. كم ؟ ، فأجاب مرة أخرى : أللي تجيبه ، فأعطيته خمس دنانير ، قطعة واحدة ، فأعاد لي نصفها ، فقلت مستغربا .. مش كثير؟ .. وليتني لم أقلها ، سرد لي نصف مأساة شعب مالاوي .
عدت الى الموظف واعطيته الاستدعاء ، فسألني .. أين الطوابع ؟ وأردف .. حط طوابع بدينار ، سألته من وين .. فقال مع المراسل ، بتلاقيه في الممرات .. ذهبت باحثا عن المراسل ، فوجدته ، فباعني الطوابع قيمتها دينار ، بدينارين وسط حيرتي .. ثم تلاشت الحيرة ، بعد ترسيم المعاملة ، برسم معلن ، وعند الصندوق قبضت وصلا بالمبلغ ، لأجد فيه بنودا ليس لها محل من الصرف ، رسوم أساسية + ضريبة + رسم تقدير + ضريبة إضافية + رسم جامعات + رسوم أمانة + ضريبة على المجموع ، ثم دخلت الى المدير العام حاملا المعاملة للتوقيع ، فوقعها مبتسما دون ان ينظر في حيثياتها ، وخرجت شاكرا ، ثم في الطريق نحو المكتب الأخير تصفحت المعاملة فلم أجد الإستدعاء أبو الطوابع ، وفجأة نسيت الموضوع ، تلبية لطلب مراجع خصني بطلب قلم ليكتب به استدعاء هربا من ثمنه .
أخذت معاملتي ، وقفلت عائدا الى المنزل لأشارك قبيلتي الصغيرة طعام الغداء .. وفي الطريق الى الشارع العام استوقفتني إمرأة تخفي وجهها تحت خمار وصوتها متحشرج ، قائلة .. لو سمحت يا أخوي :
فوقفت لها وقفة الهزبر .. نعم يا أختي تفضلي ، أي خدمة .. قالت .. يعلم الله بحالي ، جئت الى صندوق المعونة الوطني ، ليعطوني 30 دينار مخصصات أسرتي الشهرية ، ولكنهم أخبروني بعدم إمكانية ذلك ، وأطفالي ينتظرون وجبة الغداء التي وعدتهم بها ، وليس في جيبي أجرة الطريق ، وأولاد الحرام ماخلو للولاد الحلال فرصة .. وتحت إنهدام قلعة الصمود والتصدي في وجه العزةّ والكبرياء ، مددت يدي الى جيبي ، ولم تكن معي " فكة " فحصلت على عشرين دينار غسلتها بالدعوات المستورة .
وما أن توقفت التاكسي عند إشارة حدائق الملك عبدالله وادي صقرة ، حتى هجم علينا مجموعة
أطفال لا يتجاوزون العاشرة ، يحملون علكة ويسألونني الشراء بإلحاح ، واحد منهم دموعه تسيل على وجنتيه ، الأخر بيده ورود ، الكل يريد ان يبيع ، حتى إذا ما أخرجت من جيبي بعض الفكة ، حتى تجمهر غيرهم ، ممن أتقنوا الدعاء غير المستجاب .
عدت الى البيت ، متعبا ، أسأل الله لنا الستر ، حتى إذا ماجلسنا الى المائدة ، إذا بباب المنزل يقرع ، فتحت زوجتي الباب ، وتكلمت قليلا ، ثم عادت تطلب نص ليرة ، اعطيتها دون ان أسأل ، حتى عادت الى الغداء ، لتخبرني إن الطارق إمرأة على باب الله .
في المساء ، جاءني صديقي الدكتور باسم الباسم زائرا .. ومن خلال الحديث ، شكيت له ما رأيت .. فقال ياعزيزي .. هذا أمر طبيعي .. فنحن بلد نعيش على المساعدات الخارجية ، أكانت نقدية أم عينية ، حتى القمح لم نعد نزرعه ، ولم تعد هناك أراض تزرع أصلا .
إنك ترى ياصديقي ، كيف يتم الإحتفال وتبادل الزيارات مع الجيران الأغنياء ، ولا يدري أحد بأقرب الأقربين الذين يحملونهم على الأكتاف ، ويأكلون من لحم الأكتاف ، ولا يكتفون من حب الوطن ، ولا يغدرون ، ولا يخونون ، ولا يساومون ، ثم ترمى لهم العظام ، أو بقاياها ، أو شوربة الكوارع ، أو بقاياها ، ولحم خرافنا تذهب الى هناك .. ولا تسألني ياصديقي .. هناك أين .!
المهم يجب ان تعرف .. ان الجميع ، بدأ يتسول .. الطالب يتسول علامة النجاح من المدرس ، والمدرس يتسول المدير درجة التقييم ، والمدير يتسول الوزير ترقية ، والوزير يتسول رئيس الوزراء وظيفة مرموقه لإبنته ، والرئيس يتسول الصحافة بورتريه يلمع فخامة جنابه .
فقلت لصديقي .. إذا كان الحال هكذا ، فإن الأب يتسول زوجا لأبنته ، و الطالب الذي تخرج منذ سنوات يتسول ديوان الخدمة ، وظيفة شريفة ، أو يتسول مؤسسة خاصة ، وظيفة أي كلام .. والمزارع يتسول أعلافا لأغنامه .. والمرشح يتسول أبناء دائرته صوتا ، والمصلين يتسولون الأمام دعاء ، والميت يتسول أهله صدقة عن روحه ، والوطن يتسول وقفة إنتماء تدافع عن أمنه ورفعته وسيادته .
فقال لي صديقي .. أكيد .. ألم تشاهد برنامجا عرضته فضائية عربية ذات رمضان ماض ، اسمه حروف وألوف ، واتصل به للمصادفة رجل في ليلة وامرأة في ليلة أخرى وجميعهم من وطني ، وكان المبلغ قد وصل ثلاثة آلاف دولار ، حيث شكى الرجل عدم قدرته على دفع فواتير الهاتف وأجرة المنزل .. والأخت شكت حاجتها للعلاج مع انها مغتربة في مدينة الرياض .. مما دفع المذيع الأديب الى التبسم ساخرا .
ثم انهى صديقي حديثه قائلا .. في اليوم التالي توجهت الى المسجد كي أصلي الجمعة ، ثم اتوجه الى المطار مسافرا ، وبعد الصلاة ، انتزعت نفسي من بين يدي النساء المتسولات على باب المسجد .. وذهبت مسرعا الى المطار لألحق بالطائرة ، وبعد أن أوصلني السائق الى المطار ، ودخلت مهرولا الى شباك الجوازات ، فقال لي الموظف مبتسما بملائكية ، عفوا استاذ مادفعت ضريبة المغادرة .. مما دفعني الى الصراخ بأعلى صوتي :
مشااااااان الله ، وانا وين ضريبتي .. وين ضريبة حبي للوطن .. وين ضريبة غربتي ، وين ضريبة حرمان زوجتي .. وين ضريبة ضياع أبنائي وانحطاط أخلاقهم .. وين ضريبة تعبي وتحويلاتي ، وين ضريبة ضياع فرص وظيفتي الشريفة في بلدي .. وين ضريبة تنازلاتي عن حقوقي السياسية والرقابية ومزاحمة الدبيكة وطالبي قربى الشيكات والعقود الحكومية ؟
فصمت برهة .. وقلت لصديقي .. أممم .. نسيت شيئا ياصديقي .. فقال ماهو .. قلت :
نسيت الصحف التي تتسول كي تحصل على إعلاناتها .. ونسيت الكتاب الذين يفردون عضلات أقلامهم في الصباح ، ويلعقون أحذية الباكوات والباشوات وأصحاب المعالي والدولة ظهيرة يتسولون جنيهات ، ولقيمات ، و عبارات إطراء ..
ألم ترى ياصديقي ، ان الصحف الكبرى لم تعد فيها صحافة ، ولا ثقافة ، ولا أخبار ، تحت هجمة صفحات الإعلانات ، ومحسوبية النشر ، وتلميع الأشخاص المغبرة وجوههم .
فقال صديقي .. هذا كله يحصل لنا .. لماذا ، و كيف هذا ، .. قلت له .. لم تقل لي كيف عدت إذا الى هنا .. فقال :
لقد قمت بعد ثورتي العصبية بدفع ضريبة المغادرة ، وعند التدقيق على الحاسوب ، وجد الموظف إنني ممنوع من السفر ، لوجود تعميم وصل أمس ، ويجب علي مراجعة وزارة المالية ، وعندما عدت الى وزارة المالية في اليوم التالي ، كان هناك مطالبة مالية قديمة جدا ،أيام الورق ، مقدارها عشرون دينارا ، وأخذت براءة ذمة وكف طلب ، ولكن الطائرة راحت علي .. والحجز يابن عمي لن يتم قبل أسبوع ، واتصلت مع مديري لأطلب منه المغفرة وتمديد الإجازة ، فأبلغني بأنني تجاوزت فترة أجازتي دون عذر موجب ، لذلك فمن الأفضل أن أبقى عند أولادي ..
فقلت له طيب وبعدين .. قال لي : لذلك ياصديقي ، الله بعثك لي ، أسعفني بعشرين دينار .. فقلت له أنتظر عندك .. سأبحث عن صديق أو أحد المعارف ، أو أرفع استدعائي لدولة الرئيس حتى أتسول لنا أربعين دينارا ، نص إلك ، ونص على تاريخي وتاريخ أمتي .
royal430@hotmail.com