زاره صيفًا في هَدْأة الليل في القرية، يُعزّيه بموت أبيه القريبِ إلى روحه كأنَّه قطعة من قلبه، فقد كان الحاجُّ لطفي الذي نيَّف على الثّمانين يُحبُّه ويُقرّبه، ويرى فيه نموذجًا للحياة الجميلة بكلِّ تفاصيلها، وإنسانًا عَزَّ نظيرُه في الخاليات، وطاقةً إيجابيَّة تَفيضُ خيرًا على الحَيارى والمُعوزين، وما شئتَ من حديثٍ بَعد.
وجد المُعزّي قُصاصاتٍ على طاولةٍ بين يَدَي ولده المَسكونِ بالحزنِ والخوفِ والاغتراب، فدَفعَ بواحدةٍ إليه، فقرأ: رحمك اللهُ والدي العزيز، وغفرَ لك، ورَزقكَ القَبولَ في السَّماء والأرض؛ فإنَّا قد صَحِبناك زمانًا كنتَ لنا فيه ردءًا يَحْفظنا، وسترًا يُغلّفنا، وطاقةً تَشحذُ هِممَنا، ونبراسًا يُضيءُ طريقنا، وعلامةً نؤول إليها إذا اسودَّ ليلٌ حالك.
الله! قد كان على ما بُحت به، والله
أذكر أنَّ والدك –رحمه الله- قالَ لي يومًا: يا ولدي، خُذْ عنّي خصالًا للحياةِ حميدة؛ فإنّي أُعلّمها أولادي وأنتَ واحد منهم: "الشَّجاعةَ في قَول الحق، والتَّرفُعَ عن دَنَس الأرضِ وخِسَّة الطَّبع، وحفظَ المعروف، وصُحبةَ الكبار وتَوْقيرَهم، وتَعلَّمْ تَجاربهم، والبُعدَ عن النِّفاق فإنَّه مَثلبة، والحرصَ على الفضائل فإنَّها المَكارم، وتَجنَّبْ خَوارم المروءة".
كان أبوك رجلًا أيَّ رجل!
إيهِ يا صديقي! هذا الذي ذكرته أتعبنا في الحياة وأضنانا، وأماتنا وأحيانا، وفَقدنا به جملةً من الأصحاب والأصدقاء، انكشفت ظهورُهم من أوَّل اختبار، وانفرط عِقدهم عند كلّ موقفٍ يحتاج مُخلصين، وصرنا غُرباء في قريةٍ تَسَع الجميع.
ذَرَّفتْ عينُه، ودفع بقصاصةٍ أخرى، فقرأ صاحبُه: "كنّا نرى فيك يا والدي الرَّجل الذي لا تَهزُّه عاصفة، حَرَصتَ على لَمِّ الشَّملِ وجَمْعِ الكلمة، وتَنَكَّبها غيرُك، وزاغَ عنها الإمَّعاتُ السّاعين إلى الضَّلالة وحُبِّ الظُّهور في الأضواء".
حقًّا؛ فإنّي سمعتُ على المقبرة رجلًا قال:
"ماتْ أبو فْلانْ، كانْ رَجُلْ عَشيرِة".