من المرويات الشعبية الساخرة ان رجلا طرق باب منزل جيرانه ليسال عن جاره وليقضي حاجة ويطلب عونا في ليلة برد جنوبي قارص ، وما ان خرج ولد ليرد على طارق الباب ، وليقول : يا عمي ابوي بقول انه ليس هنا.
ادار الرجل ظهره ، وعدل عن سؤال الجيران ، واكتفى بجواب فاضح لكذبة ما اغباها ، وذلك حينما كان للكذب اقنعة بيضاء . ويصعب تصنيف هذه الكذبة بيضاء ام سوداء ام رمادية ، ولم نعرف ماذا حل في حال وشان الرجل طارق بيت الجيران ؟
لربما ان المشهد قد تكرر لمولى البيت ، وذات يوم طرق باب لاحد الجيران او كان عابر سبيل وسال في عوزة وحاجة عن اهل الخير والعون ، وطرق بابا لمنزل وسمع ذات الجواب .
للكذبة الواحدة اكثر من ضحية ، وللكذبة الواحدة مهما تنوعت وتعددت اقنعتها ضحايا كثر ، وليس هناك من كذبة لا تنفضح او لنقول كذبة خالدة وكذبة ذكية وقوية ومحصنة .. العرب قالوا : الكذب احباله قصيرة ، ومن ثقافة التبرير قالوا : «الكذب ملح الرجل وعيب على اللي يصدق « .
ومهما حاولنا تزيين الكذب وخففنا من بشاعته وقلنا ان ثمة كذبا عفويا ، وان هنالك بالبعيد الممكن والمستحيل كذبة الحاجة والضرورة ، وهي كذبة بيضاء . ولكن ، من يزينون الكذبة باللون الابيض يتناسون انه مع مرور الزمن تتحول سوداء قاتمة ورمادية قاتلة .
وكم من كذبة قد قتلت انسان ، وكم من كذبة دمرت اوطانا واشعلت حروبا وفتنا ؟ دعونا نقلب صفحات التاريخ ، وما ابشع النتيجة ، العراق دمر واحتل تحت ذريعة امريكية خادعة وكاذبة عن وجود اسلحة دمار شامل يملكها نظام الرئيس الراحل صدام حسين .
و اعترف فيما بعد الحرب على العراق كبار مسؤولي الادارة الامريكية ان ذريعة اسلحة الدمار الشامل كانت كذبة وخديعة روج لها ساسة واعلاميون وتجار اسلحة وحروب ومضاربون خدعوا صناع القرار الامريكي .
تطورت ادوات الكذب .. ولربما ان الكذب لم يعد يعرف بانه عدم قول الحقيقة مثلا . الكذب اليوم خطاب وتورية وتضليل ، والكذب له ماكينات تشتغل على الكلمة والصورة والايحاء والمجاز والبلاغة ، والخطاب والثرثرة .
الكذب له استراتجيات ، وحينما تتابع اخبار الازمة الاوكرانية ، وكيف يصور الاعلام الغربي والابواق التابعة له حالة الحرب الروسية ، ويذرفون دموع التماسيح على ملايين من الاوكرانيين الذين شردوا من ديارهم بسبب ازمة صنعها ذعر امريكا وتحريض بريطانيا وجبن اوروبا .
و ماذا يقول اعلام الغرب في خوفه على اطفال ونساء اوكرانيا ؟ تطور الكذب والخدعة اخطر من الكذب مئة مرة واكثر .. ولربما ان الخدعة وصف تلطيفي وتجميلي في تعريف الكذب القاتل ، يمكن القول انها مستوى اعلى من الكذب ، وما اخطرها !
و طبعا لاننسى المقولة الشهيرة للقائد العسكري الالماني النازي جوبلز .. اكذب واكذب واكذب حتى يصدقك الناس. وما اقصى ما لا يصدق انه بالكذب والتمويه قد تصدق ان الثلج لونه اصفر واخضر واسود .
الكذبة من طرقة الباب والسؤال عن الجار ، والتطور التكنولوجي حدث انقلابا في ادوات الكذب .. واليوم جوجل ايرث يفضح مكانك اينما كنت ، واللوكيشن وتطبيقات تحديد الجغرافي تفضح اكاذيب التستر على مكان الاقامة والسفر والترحال .
التكنولوجيا هتكت في القيم .. ولربما انها فعلت وانتجت ضميرا اخلاقيا لا يحتاج الى نوازع الشخص الدينية والاجتماعية والتربوية ، وجعلته عرضة لمساءلة ورقابة التكنولوجيا واعينها البصيرة التي تنام ولا تعرف النوم .
الدستور