كنت أظن أنني كثير الكلام، وأنني «حكواتي»، وأنني أغتصب الجلسات لصالح فمي، إلى أن التقيته أخيراً، طالما سمعت عنه وطالما شاهدته من على مسافات قصيرة، كنت أسمع صوته الجهوري الذي ليس له علاقة بإحداثيات الإرسال والاستقبال، صوته جهوري كالمدفعية، اندفاعي في التواصل، حميمي في مشاعره، وربما يكون صدامياً أو قابلاً للتصادم. تحدثنا عبر الهاتف منذ عدة أشهر، عبر لي عن إعجابه بما أكتب، أصابني غرور، فعندما يعجب بكتابتك مثل صنفه من الكتاب، لا بد أن يصيبك مسحة من مسحات الغرور.
التقيته بمنزله في جبل عمان بصحبة أخي الأستاذ سمير الحياري عمدة «عمون»، رأيت بسمة ترتسم على جفنيه وهو يستقبلني، الحقيقة أنه مستمع جيد رغم أنه «حكواتي» أكثر مني، وحكاء من طراز رفيع، وسارد روائي قصصي مبدع، تفكيره مجنون، خياله مجنون، نحات للكلمات، إنه يرسم بالكلمات، لكنه ليس نزاراً، قارئ نهم، ومحلل سياسي وعر، كنت استمع إليه وأسائل نفسي: هذا الرجل جالسته من قبل، ولكن أين، أخيراً اهتديت، لم أجالسه من قبل قط، إنه نسخة طبق الأصل في قوامه، وتشكيل وجهه، وحجم رأسه، وبياض شعره، وكثافته، وقصته، عن الكاتب الداغستاني رسول حمزاتوف، يحمل اسماً مختلفاً هو أحمد سلامة.
هذا رجل لم يسمع والده يتحدث مع والدته يوماً، الوالد يعيش في غرفته الشرقية، وأمه تعيش في الغربية، لفّ الصمت علاقة والديه، ولم يكن هذا هو الصمت الوحيد الذي رافق طفولته، فقد كان يعيش بجوار مقبرة صامتة، أصابه غضب من صمت سكان المقابر، فسعى إلى نصب شرك من الثأر من صمت الأحياء والأموات من حوله، اخترع موهبة الكلام كنوع من التعويض عن لذة مفقودة في صباه، وابتكر مهارة صناعة الفرح واصطفاء السرور، كنوع من التعويض عن سنوات القحط، وضيق العيش، وتبرم المسرات، لاحق الفراشات وهو صبي وهي تحلق في دوائر فوق القبور، تقرأ الفاتحة على أرواح من تركوها وحيدة خلفهم، بدت له الفراشات ذات أرواح الموتىـ كان ذلك أول درس في علم الخيال، وفي الكلام الذي يجب أن يقال، والكلام كثير.
لاحق أحمد سلامة مدير تحرير الرأي الأسبق، والمستشار السابق لولي عهد سابق، لاحق الزنبق البري في المقابر، وجعل من المقبرة ساحة لعب، ملعب صبا، مهوى للصَّبا، استولد الفرح، صنّعه، خلقه من عدم، وظلت «الحنّونة» الملاصقة لمخفر الفرسان في «بديّا» تثير فيه هواجس طفولية خلاقة، تلك «الحنونة» المتعلقة بالصبر، والمثابرة في العيش بين التين والزيتون، استفادت من مجاورتها لمخفر الفرسان، وظلت ذاكرته عامرة بفرشات الصوف، وبيت أبيه المعقود على الطراز المملوكي في تلك القرية التي يمتد تاريخها إلى العصر الحديدي، والبيزنطي، والصليبي، والأموي، والأيوبي، والروماني، والآرامي، أقولها هكذا دون ترتيب تاريخي، لعل تلك الفوضى تروق لهذا الرجل الفوضوي الذي شكل من ذاكرة طفولته، خلطة من كسارة حجر اشتراها والده لتكون منجاة من سنوات القحط، قبل أن يكتشف أنها ليست أكثر من كومة حديد، ومغارات بيزنطية كانت أمه تخبيء فيها أرانبها، مع تنكات الكاز الذي كان والده يوزعها على القرى في صهريج يجره بغل، بغل أو بغلة، أو قل جابة حتى يتفق الأمر، المهم أن أحمد سلامة لم يسقط من الذاكرة الصبار الذي يحيط ببستان بيت أبيه، والتين، والباذنجان، والدجاج، والطيور، والقبور، والحبور.
أصبح «أبو رفعت» شاباً، عرف مبكراً سر حواء وآدم، وأن الحب لا يسقط بالتقادم، وأنه لو لم تكن حواء، لما كان في الحياة حباً، عرف في الجامعة الأردنية جنته الأولى، وحبه الأول، وخطى في دربه الخاص خطواته الأولى، وهو لا ينس الجبيهة ووردها الجوري، وأشجار الزيتون، ولا ينس زهر اللوز، ولا أبو غازي اللوزي، راعي البوابة الرئيسية.
ثمة مشتركات عديدة تجمعني بأحمد سلامة، لعل عشق عمان أبرزها، مدينة صنعت عاداتها وطقوسها وتقاليدها بيديها، عمان الذكية التي يصبح أهلها آذان صاغية إذا تم تأخير بث النشرة الإخبارية على شاشة التلفزيون الوطني دقيقة أو دقيقتين، وعندها يتوقف كثير الكلام عن الكلام، ويلجأ للصمت الذي كره صوته في طفولته، وسرعان ما يعود إلى طبعه صانعاً للكلام والأحبار والأقلام.
(الدستور)