الاثر الذي تتركه الاقلام على الورق بعد أن يمحى خط اقلام الرصاص المدببة لم يكن يهم الاطفال ولا المعلمين في الصفوف الاولى، فالاثار كانت لكلمات واحرف انبعجت كثيرا لضعف عضلات اصابع اليدين او انزلاق القلم من بين الاصابع اللينة وانكسار رؤوس الاقلام وتدحرجها على اوراق النسخ وتشويهها.
اقلام الرصاص كانت الادوات الاهم لرسم احرف الكلمات التي يتعلمها الاطفال ويتدربون على نسخها. لمسار رأس القلم المبري قدرة على ترك اثاره على كل انواع الورق ليفصح عن ما يحاول الشخص كتابته قبل ان يغير رأيه بتمرير الممحاة عليه.
منذ الصفوف الابتدائية الاولى كانت الممحاة اداة مهمة ملازمة لحزمة الادوات التعليمية المؤلفة من الدفاتر واقلام الرصاص والمساطر الخشبية والبرايات...فالممحاة لا غنى عنها لازالة الاخطاء التي ترتكبها الاصابع الغضة في محاولاتها تعلم تصوير الحروف التي تتغير اشكالها حسب موقعها وترتيبها في الكلمات التي تدخل في تشكيلها.
قراءة الخط الممحي اصطلاحا شائع الاستخدام هذه الايام بين الكبار والراشدين اكثر من شيوعه بين الصغار ،فقد سمعته للمرة الاولى قبل اربعة عقود من الزمان حين كنت طالبا في المرحلة الثانوية . في تلك الايام كان الزملاء يتسابقون على القراءة واعداد انفسهم ليجتازوا الثانوية العامة دون الاستعانة بصديق او حتى اهتمام جدي من الوالدين ....كان بعض الطلبة يدخل في طقوس القراءة والحفظ فينقطع عن الحياة والناس مكرسا وقته للقراءة والحفظ في حالة لا تختلف عن الرهبنة والانقطاع للعبادة ...
يومها كنا نوصف احد رفاقنا بانه وصل الى حالة اصبح فيها يقرأ الخط الممحي وذلك كناية عن انه حفظ كل محتويات الكتب المقررة.. للدرجة التي جعلته يحفظ ما كان يمكن ان يكتب في المقررات ومسوداتها.فيما بعد سمعت البعض يستخدم الوصف للاشخاص الذين يفهمون مقاصد الحديث والرسائل التي لا تتضح للعامة...
اثار الاقلام والكلمات المشطوبة امور تثير فضول الكثيرين ويدققون فيها في محاولة لفهم مسار تفكير الاشخاص الذين كتبوا وشطبوا ومحو ما كتبوا ...في حالات كثيرة كنت اجد نفسي ابذل مجهودا اكبر في التعرف على الكلمات المشطوبة او الملغية من النصوص اكثر من اهتمامي بالنصوص الاصلية...فالامعان في قراءة النص قد يقربك اكثر الى مقاصد الكاتب التي حملتها السطور فيما بينها ولم تظهر جليا في النص...
الابداع الحقيقي للكثير من نقاد الادب والفن والاعمال الابداعية يتأتى من قدرة الناقد على قراءة النص قراءة ترشدك الى المعاني التي حاول الكاتب ان ينقلها من خلال نصوصة او دار حولها دون ان يلامس جوهرها فجاءت القراءة الجديدة لتسقط الضوء على الصور الخافتة في النص لتظهرها وتبعث جمالياتها الكامنة ليراها القاري لها بعيون الناقد الذي افلح في قراءة ما وراء النص او العمل.
في هذه الايام التي كثرت فيها المجاملات والانتهازية السياسية تتمنى لو تضع يديك على النصوص الاصلية التي يكتبها الناس قبل ان يخضعوها لمعايير رضى السلطات والمدراء وحسابات مصالحهم.
في مثل هذه الاوضاع تصبح قراءة الخط الممحي اهم بكثير من الخط المكتوب الذي يحرص كتابه على تكبيره وابرازه.
قبل سنوات وعند انعقاد احدى الندوات التي نظمتها بالشراكة مع العديد مع منظمات المجتمع في الاردن حول بيانات واحصاءات الاعاقة...قالت احدى المتحدثات من الاتحاد العالمي للصم"بلغة الاشارة " دون ان تنطق "أن الاحصاءات مثل البكيني فجمالها ليس فيما تظهر ...بل فيما تخفي"
اظن ان الكثير من الكتابات التي نتابعها هذه الايام لا فائدة ترجى منها الا اذا ما طالعتها على طريقة الخط الممحي...فتبحث عن ما لم يقال... او ما دار حوله الكاتب ..من المؤسف ان قدرتنا على الحوار والتعبير والتواصل الفعال حول القضايا التي تهمنا اخذت تتضائل شيئا فشيئا لا لغياب الادوات بل لاستفحال المسايرة والخوف والحرص على استرضاء الجميع..
مجتمعاتنا الحديثة فقدت عفويتها فاصبح الافراد يقضون الكثير من الوقت في تعديل ما سيقولون ويموهون المعاني في محاولاتهم ليكونوا اكثر دبلوماسية واقل مباشرة ووضوحا ...فدفعهم لاستخام مما نصوص تشعرك بانها كانت تشتمل على مئات الكلمات التي جرى محوها....
اللغة المحايدة والغموض في حواراتنا وتفاعلنا كانت من العوامل التي اسهمت في تعميق الانتهازية وتوليد الغضب واضاعة الوقت في محاولة فهم رسائل النصوص التي اصبحت تحتاج الى من يملك مهارات قراءة الخط الممحي والمشطوب والمقاصد التي يمكن الاستدلال عليها من قراءة معمقة لما بين السطور.