نحن نعيش في عصر غالبًا ما تحتل فيه النزاهة منزلة ضعيفة في السلطة والنجاح المادي حيث "الغاية تبرر الوسيلة" هو شعار للكثير من البالغين الذين يؤثرون على الأطفال والشباب. لم يتم عرض هذا الشعار بشكل علني في أي مكان آخر كما هو الحال في السياسة الأمريكية، حيث يكثر الخداع وعدم الأمانة والتنمر الذي لا هوادة فيه والذي يُظهر للأطفال الجانب المعاكس للنزاهة.

نرى هذا الجانب من قلة النزاهة في رد على منشور شخص غريب على Facebook حول قضية اجتماعية أو تعليق غير لطيف لصديق حول شخصية عامة، فأصبحت الردود السريعة والبغيضة هي الوضع الطبيعي الجديد للبالغين والأطفال. ولانتشار قنوات التواصل الاجتماعي عالميا أصبح ما يسمى بالسياسة الامريكية في التعامل الاجتماعي ظاهره في التعاملات الاجتماعية المنتشرة في كل الدول ومنها الدول العربية التي اساءت استخدام منصات التواصل الاجتماعي لأهداف التسلية والمتعة دون الاهتمام بالأخلاقيات العامة للمجتمع. حيث يرى الكثيرون أنها لعبة ممتعة ومسلية مع القليل من العواقب. والمشكلة الاكبر ان هذه التعاملات الاجتماعية المماثلة اصبحت تجري وجهاً لوجه وانتقلت الى المنازل في جميع أنحاء البلاد.

وللأسف، فإن عواقب تجاهل النزاهة أصبح حقيقية، ويمكن أن تحدث هذه العواقب ضررا نفسيا عميقًا، حتى بالنسبة لأولئك الذين يجلسون بصمت على الهامش دون تدخل، مثلهم كمثل المتضررين من التدخين السلبي، غالبًا ما تتسرب آثاره على الاخرين والاطفال.

وكذلك الامر بالنسبة لتجاهل النزاهة فعدم الاحترام وعدم الأمانة تنتقل بشكل غير مرئي وغير مباشر إلى أجساد وعقول الأطفال. ولأبطال هذه الاتجاهات السلبية المؤذية, يجب على الاسر أن تسأل نفسها أسئلة جادة حول القيم التي يقدروها كأسر في حياتهم العائلية بشكل خاص وفي الحياة بشكل عام، ثم تعليم أطفالها أن يعيشوا تلك القيم. وكما قال غاندي ببلاغة، "أن تؤمن بشيء ما، ولا تعيشه وتعمل به، يعتبر خداع وكذب" وهذه قيم بعيدة عن النزاهة.
 
ماذا نعني بالنزاهة؟

النزاهة هي قدرتنا على التصرف بطرق تتفق مع القيم والمعتقدات والمبادئ الأخلاقية التي ندعي التمسك بها. وكلمة نزاهة (Integrity) مشتقه من الكلمة اللاتينية Integer)) التي تعني الكمال، وهي تشير إلى حالة الإنسان من الفضيلة والكمال. فالنزاهة هي مجموعة من القيم، بما في ذلك الصدق والشجاعة والشرف والاحترام، والمسؤولية، وضبط النفس والأصالة. على الرغم من القوى المجتمعية التي تختبر النزاهة، يتفق معظم الناس على أن الأطفال يستحقون عالماً يقدر الحقيقة والصدق والعدالة. كأساس للتناغم الاجتماعي والعمل، وتلعب النزاهة دورًا حاسمًا في المجتمع المدني وكذلك في الديمقراطية. وبالرغم من ان الاطفال يتأثروا بالعديد من العوامل خارج المنزل، الا ان الدراسات تظهر أن الاسر لا تزال المعلم الأساسي للنزاهة والسلوكيات المرتبطة بها واهمية الدور الذي تلعبه الاسر في تنمية النزاهة التي تعتبر اساس في نجاح الاطفال.

لماذا تعتبر النزاهة أمرًا اساسيا لنجاح الأطفال.

خلال سنوات نمو الطفل، غالبًا ما يتم تحديد النجاح من خلال الدرجات الأكاديمية والإنجازات اللامنهجية، وعلى الرغم من أهمية هذه المقاييس، يذكرنا وارن بافيت، (warren Buffet) أحد أكثر رجال الأعمال نجاحًا في العالم، لماذا يجب على الاسر التركيز أيضًا على تطوير القيم الإنسانية. يقول بافيت: " مثلا، في البحث عن أشخاص لتوظيفهم، ابحث عن ثلاث صفات: النزاهة والذكاء والطاقة. وإذا لم يكن لديهم الصفة الأولى، فلا فائدة من الصفتين الآخرتين". ليس بافت فقط من يؤكد على أهمية النزاهة, يتفق معظم القادة في جميع المجالات على أن المال والسلطة وتحقيق الأهداف شيء ثانوي بالنسبة للإنسانية جمعاء فالمهم هي القيم الاخلاقية في التعاملات الانسانية والتي تأتي قبل المال والسلطة وتحقيق الهدف, وجهة النظر هذه وجدت في نصوص جميع الديانات الكبرى في العالم. ولسبب وجيه، يتفق الجميع على ان نجاح الإنسان ورفاهه يعتمد على الاحترام والصدق والامانة والجرأة في تبادل الأفكار والآراء.

أما بالنسبة للأطفال، لا يولد الأطفال بالنزاهة أو السلوكيات المرتبطة بها، بما في ذلك التواضع والمسؤولية الاجتماعية والشجاعة للدفاع عما يعتقدون أنه صحيح. فالنزاهة يستمدها الطفل من خلال عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية وما يتأثر به الطفل من جميع مجالات حياته. فاذا نشأ الطفل في اسرة تتخذ النزاهة وقيمها كأساس في تعاملاتها الداخلية والخارجية، يختبر الطفل قيم النزاهة من خلال الخبرة المباشرة ويتعلمها بالتعلم المباشر والنمذجة وينقل ما تعلمه في تعاملاته اليومية. فاذا تعلم الطفل الشجاعة وحرية ابداء الرأي داخل المنزل يستطيع ان يكون شجاع في ابداء رأيه وان لا يتخلى عن هذه القيمة في المدرسة ومع الاقران فيقف ويساعد الطفل الضعيف ولا يتنمر على الاخرين. وإذا تعلم الصدق في المنزل يستطيع ان يكون صادق وان لا يكذب في المواقف المختلفة حتى إذا كان مخطئ. وإذا تعلم التعاطف في المنزل يستطيع ان يتعاطف من الاخرين والاقران في وقت الشدة. وإذا تعلم الامانة من اسرته، يحترم ممتلكات الغير ولا يسرق أو يغش.

فالنزاهة تبدأ من الاسرة والمنزل..

* الجامعة الاردنية كلية التربية