أرأيت كيف يدافع الغرب عن أمنه القومي ووجوده، كيف تحوّل لكتلة واحدة، تنازل المحايد عن حياده، واستقال المعتزل لحرب من سلميته؟ أرأيت كيف انكشفت لافتات حقوق الإنسان عن مجرد وهم يتردد بالفضاء العام، وكيف تخلى الإعلام عن أخلاقياته، وأسقط مهنيته، وكيف تبخرت الخلافات بين الدول لمصلحة هدف واحد، وضد عدو واحد؟
ألا يذكّرنا ذلك بأكثر من واقعة، كنا فيها الطرف الآخر المستهدف، لكننا لم نتحرك للدفاع عن وجودنا، وتوزعنا على محاور، فسقطت العواصم، وتتالت النكبات، والنكسات، والغزوات، وما زال حبل “الغزو” على الجرار.
هذا أول درس وصلنا من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، أو إن شئت الدقة، بين روسيا والغرب، لأن أوكرانيا مجرد محطة أو ساحة للمفاصلة بين الطرفين، وهو درس لنا على المستوى القومي العربي، وعلى المستوى الوطني أيضا.
عنوان الدرس هو التوافق على المشترك الذي يهدد المصير، والدفاع عن القضية الأولى التي تتعلق باستمرار الوجود، ثم حشد كل ما يمكن من طاقات لمواجهة مصدر الاستهداف، عندئذ لا معنى للاختباء خلف المصالح القطرية، أو الاستمرار بتصفية الحسابات الوطنية بين الأطراف، أو الادعاء بأننا نصحنا ولم يسمعوا، أو أنهم أخطأوا وجاء وقت حسابهم، الكل عندئذ سيدفع الثمن، فالهزائم توزع الخسارات على الجميع بلا استثناء.
سأتجاوز، هنا، الشق المتعلق بالهمّ العربي، لأن أمامنا، على ما يبدو، وقتا طويلا لكي نحلم، مجرد حلم، بمشروع عربي نتوحد عليه، ونحتشد من أجله، وندافع عنه، نحن، للأسف، ما زلنا مختلفين على تحديد من هو العدو، وحتى حين يعرفه بعضنا ويحدده، يتسابق الآخرون للتحالف منه ضد بعضهم بعضا.
نحن، للأسف أيضا، ما زلنا نتسابق للاحتماء بالأقوياء دون أن ندرك أن قوتنا الوحيدة والمضمونة “فينا” بداخلنا ومع شعوبنا فقط، ونحن، للأسف ثالثا، أهدرنا، وما زلنا، طاقاتنا ومواردنا بحروب وصراعات داخلية وبينية، بعضها باسم الغنيمة، والأخرى باسم البحث عن دور في سيرك يتقافز على مسرحه أعداؤنا وسفهاؤنا معا.
يهمني، الآن، سؤال. واحد، وهو: ما القضية الكبرى التي يجب أن تشغلنا وتجمعنا كأردنيين في هذا السياق الذي تتوالى علينا فيه مثل هذه الدروس العالمية؟ الإجابة، بتقديري، أن نتفق أولا، على قضية نضعها كأولوية، وأعتقد أن أهم قضية نحتاجها هي “الدولة الأردنية”، فنحن جميعا مهما اختلفت اتجاهاتنا لا نختلف على حماية الدولة والحفاظ على قيمها، وضمان استقرارها واستمرارها.
هنا يجب أن نفرق بين الحكومات والإدارات العامة والمرافق الأخرى، ومن يتقلبون على مناصبها، وبين الدولة ككيان ووجود، الأولى متحركة ومتغيرة، يمكن انتقادها والاختلاف معها، كما يجب التعامل معها أحيانا بمنطق تقدير المصالح والاضطرارات، لكن الدولة لا حياد بالانحياز لها، والدفاع عن خياراتها، ظالمة كانت أو مظلومة.
دفاعا عن الدولة الوطنية، والأمن القومي والوطني، كما يفعل الغرب الآن تجاه حربه مع روسيا بواسطة أوكرانيا، يمكن للأردنيين أن يخرجوا من الصندوق الأسود الذي وضعتهم فيه سياقات وظروف سياسية واقتصادية، وربما تاريخية، فلا جدوى من التمترس خلف صراعات المصالح والمبادئ، أو الخيارات والمبادئ، لقد أصبح ترسيمها واجبا، للدولة اضطراراتها وفق ما تقرره المصالح، وللمجتمع قيمه وخياراته، لا يجوز لطرف أن يصادر الآخر حقه فيما يراه ويقرره.
النقطة الثانية، هذا الترسيم لا يعني أبدا أن يقبل الأردنيون بالوضع القائم على ما هو عليه أو كما يراه بعض الذين تسللوا للمواقع العامة واحتكروها، وقرروا بالنيابة عن الناس ما يرونه وفق حساباتهم الضيقة، المطلوب والضروري هنا الفصل بين تدافع داخلي ينتهي بالإصلاح تحت عنوان الصالح العام، والمشتركات الوطنية، وبين تدافع آخر ضد أي استهداف أو تهديد خارجي.
التدافع الأول سياسي في إطار الدولة، يحتمل الاختلاف، وربما الاشتباك الإيجابي، أما الآخر فمختلف تماما، لأنه باسم الدولة والدفاع عن نفوذها ووجودها ومصالحها، ويقتضي التوحد والانسجام وطي كل الخلافات والتنازل عن كل انتقاد.
(الغد)