كيف أيقظ بوتين المارد الألماني
داود عمر داود
10-03-2022 10:13 AM
العلاقات الدولية، ومجمل الأوضاع في العالم، بعد الحرب التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا، لن تكون كما كانت قبلها. وربما يعكس التصويت الذي جرى في الجمعية العامة للامم المتحدة، لإدانة روسيا، الاصطفافات الجديدة على الساحة الدولية. فقد أيد روسيا في حربها 4 دول فقط هي (سوريا، بيلاروس، أرتيريا، وكوريا الشمالية). أما الكتلة التي امتنعت عن التصويت، من بينها الصين وايران، فتشكلت من 35 دولة، فيما أدانت 141 دولة الغزو الروسي لأوكرانيا. الأمر الذي يعكس انقساماً دولياً ربما يقود إلى انهيار (النظام العالمي)، ممثلاً بالأمم المتحدة، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
إيقاظ المارد:
أولى التداعيات الناتجة عن الحرب الأوكرانية كانت على النظام العالمي، وسيتبعها تداعيات اخرى كثيرة، على مختلفة الأصعدة، سيمتد تأثيرها ليطال العالم بأسره. أبرزها انتشار حالة من الخوف في أوصال الدول التي لا تعتمد على ذاتها في حماية وجودها، وتستند إلى ضمانات وغطاء من النظام العالمي، الذي تفاجأت من أنه لن يتدخل عسكرياً لحماية أوكرانيا من تغول روسيا، الأكبر والأقوى منها.
وقد وصل النظام العالمي إلى طريق مسدود، بفقدان الأمم المتحدة لفاعليتها، مما أرعب دولاً مثل اليابان وألمانيا، التي أصبحت منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، تعتمد في وجودها على (الغطاء) الذي يوفره لها نظام أصبح قاب قوسين أو أدنى من الانهيار. فاليابان تخشى أن تبتلعها الصين، وألمانيا تخشى أن تبتلعها روسيا، إذا ما واصلت زحفها نحو الغرب.
تحولات سياسية وعسكرية:
لذلك نجد أن كلاً من ألمانيا واليابان قد عبرت عن قلقها الشديد من انكشاف (الغطاء) عنها الذي يحفظ وجودها كدولة وكيان، والذي وفرته وضمنته لهما أمريكا. لذلك صارت الدولتان تفكران بصوت عالٍ: كيف تحمي كلٌ منهما نفسها بنفسها، دون الحاجة إلى أن تكون تحت حماية حلف (الناتو) أو دول كبرى مثل أمريكا، التي يرى كثير من المراقبين أنها هي نفسها تشهد حالةً من التراجع. فمجرد التفكير أن تتولى حماية نفسها سيجلب معه تحولات سياسية وعسكرية على المدى البعيد.
صحوة ألمانيا لإستعادة مكانتها:
لذلك ارتفعت في اليابان أصوات تطالب بدراسة إمكانية نشر رؤوس نووية أمريكية على أراضيها، رغم الحظر المفروض عليها بعدم (انتاج أو استخدام أو نشر أسلحة نووية). فاليابان إذن ما زالت تركن إلى أمريكا لحمايتها.
أما ألمانيا فقد استغلت مناسبة الغزو الروسي لأوكرانيا وأرسلت، على الفور، إلى الجيش الأوكراني أسلحة مضادة للدبابات وصواريخ ستينغر المضادة للطائرات. ثم أعلنت أنها سترفع إنفاقها العسكري بقيمة 100 مليار يورو (قرابة 140 مليار دولار)، من أجل تسليح الجيش الألماني بالمعدات والأسلحة المتطورة.
وكأن الألمان كانوا ينتظرون هذه اللحظة التاريخية كي يحولوا جيشهم إلى قوة عسكرية عالمية من جديد، ويحولوا بلادهم إلى دولة كبرى فاعلة. وكان هذا التحول مضمون نقاش داخلي امتد لسنوات، إلى أن سنحت للالمان فرصة الغزو الروسي لأوكرانيا.
الصراعات الاستعمارية تعود الى أوروبا:
وقد جاء إعلان المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتس، عن إعادة تسليح بلاده، أمام البرلمان بمثابة نعي للنظام العالمي الحالي، حين قال: (نحن نمر بنقطة تحول، ما يعني ان العالم لم يعد العالم الذي نعرفه من قبل). كما استحضر شولتس تاريخ الصراعات بين الامبراطوريات الأوروبية الاستعمارية السابقة حين قال، وسط ترحيب وتصفيق البرلمان له، (انها مسألة ما اذا كنا سنسمح - للرئيس الروسي فلاديمير بوتين - بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى زمن القوى العظمى في القرن التاسع عشر). مضيفاً في نبرة تحدٍ لروسيا (أو ما اذا كان لدينا القوة لوضع حد لدعاة الحرب مثل بوتين).
وربما يكون مستشار ألمانيا قال هذه الكلمات وفي ذهنه صورة القائد العسكري الألماني المارشال (ويليهام كايتل) وهو يوقع صك استسلام بلاده للجيش الأحمر السوفياتي، في السابع من مايو ايار عام 1945، بعد سقوط العاصمة برلين، في نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد منعت دول الحلفاء المنتصرة ألمانيا الغربية من بناء قوة مسلحة جديدة، حتى جاء عام 1955 حيث سمح الحلفاء لها بإنشاء قوة دفاعية.
الصحوة الألمانية وطموحات النازيين:
تلبي الصحوة الألمانية، بالعودة كقوة عظمى، غرور اليمين المتطرف الذي كشف عن أمله في عودة البلاد إلى ماضيها النازي. فما زال هناك جماعات سياسية، من النازيين الجدد، تؤمن بـ (تفوق العرق الآري) وأن ألمانيا فوق الجميع. وهذه الجماعات تتوق لإسقاط النظام الحالي في ألمانيا، والعودة إلى نظام (الرايخ الثالث) النازي، الذي تزعمه أدولف هتلر، بين عامي 1933 - 1945.
ومن بين هذه الجماعات (حزب البديل) اليميني المتطرف الذي حصد 94 مقعدا في البرلمان الألماني، في انتخابات 2017، وأصبح ثالث أكبر حزب في ألمانيا، وكان اول حزب يميني يدخل (البوندستاج) منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أن هذا الحزب تراجع في انتخابات عام 2021، وأصبح خامس أكبر حزب في البلاد، وحصل على 83 مقعداً نيابياً، من أصل 735 مقعداً.
خلاصة القول: خطأ إستراتيجي ارتكبه بوتين:
يبدو أن حرب بوتين ضد أوكرانيا ستكون القشة التي ستقصم ظهر البعير الأوروبي، كما يقال. فهي من جانب أضعفت النظام العالمي، ممثلاً بالامم المتحدة، وجعلته قابلاً للسقوط، ومن جانب آخر أيقظت المارد الألماني الذي ربما كان ينتظر اللحظة المناسبة للنهوض بألمانيا لتستعيد مكانتها كدولة عظمى، لها طموحاتها الخاصة بها.
ويبدو أن سيد الكرملين لم يفكر في هذه التداعيات، ولم يأخذها في الحسبان، بدليل أنه حاول تدارك هذا الخطأ الإستراتيجي بأن كلف رئيس وزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، فيما يبدو أنها مهمة وساطة عاجلة لإسترضاء برلين، وربما اقناعها بعدم التخلي نهائياً عن مشروع نقل الغاز الروسي (نورد ستريم 2)، ثم تخفيف ردة فعلها على غزو أوكرانيا، خاصة بعد الاستقبال المهين الذي لقيه المستشار الالماني شولتس، في موسكو قبيل الحرب.
وعموماً، سواءٌ أيقظ بوتين، بقصد او بدون قصد، المارد الألماني في الغرب، يبقى السؤال هو: هل ستوقظ حرب بوتين أيضاً المارد العربي الاسلامي، في الشرق؟ فالعالم على (مفترق طرق) كما يقول المستشار الألماني، وهذه فرصة ربما لن تتكرر.