انهضْ أبي رَتِّلْ خُشُوعَكَ الأخير
وليد شنيكات
08-03-2022 11:11 PM
أربعونَ يوماً مضتْ على رحيلِكَ المُفجعِ وطيفُك لا يُفارقني، أربعونَ ليلةً انقضتْ يا أحبّ أهل الأرض إليّ، وصورتُك البهيّةُ تسكنُ بصري وبصيرتي. آثرتَ الرّحيل إلى حوض المنايا مُبكّراً يا مُهجتي. أَعرفُ أنّ موتَك حقٌّ، غَير أنَّه واللهِ كَسَرَ خاطري وأَذْهَبَ هَيبتي، وسَكَبْتُ الدَمعَ عليكَ حرَّى والفؤادَ بأضلُعِي كَمَداً يُداري لوعةً.. لو عَلِموا مَدَى وجَعي عليكَ وأَوجُعي.
قد أكونُ وَفّيتُكَ شيئاً مِن حقّك عليّ، وأنتَ بيني وبيني، وقد لا أكونُ، فكيفَ أفيك وأنتَ هُناكَ مُسجّىً في مرقدكَ الأخير بعيداً عنّي.. ترفّق بي قليلاً "يا بُوي"، فقد وَهَنَ قلبي والحَسرةُ تسري بين لحمي وعظمي، أُكابدُ الكَربَ مِمّا ذُقتُ من اليُتم فيك ومِن قبلِكَ مَوتُ أُميّ، لو كُنتَ تُبصِرُ حالتي لَعَرفتَ أنيّ "لَطيمٌ" ألثِمُ الكَفنَ تَقرُّباً، بَرّاً بِكَ وبوالدتي، ولكما العُتبى.. يا الله ما أصعبَ فِراقَ الأحبّة وما أشقَّه على النّفس.
أرثيكَ بالدّمع، والدّم أولى، وآهاتُ النّفس تأسُرني في كلِّ يومٍ ألفَ مرةٍ، كيفَ طوَّعتْ لي نفسي أن أغفلَ عن سماعِ صوتِكَ ذاكَ "الخميس المُثلج"، حيثُ توارتْ شمسُكَ، وانطفَأ بريقُ عينيكَ فجأةً، ليخطِفَكَ المَوتُ مِنّي عَنوةً ويَضَعَني مَرّةً ثانيةً في غُربةٍ أشدَّ وأَبلى. وأَنَا هُنا في أرضِ الغُربة أنتحِبُ فِراقَكَ يا نُورَ عَيني، واللهِ يا حبيبي ما زالَ ضميري يؤلِمُني، واللوعةُ تسكنُ خاطِري.. كيفَ غفلتُ عن سماعِ صوتِكَ في ذاكَ اليومِ الأليمِ؟ فأرجو صفحَكَ وعفوَكَ يا مَن كنتَ ظِلِّي وظَليلي، وستظَلُّ حتى لو تَدثَّرتَ هُناكَ عنّي بِرداءِ المَوتِ غَصْباً.. حتى الطَقسُ -تَخيَّلْ- غَدَرَ بي هو أيضاً وَمَنَعَني من رؤيةِ إشراقةِ مُحيّاكَ في الدقائقِ اليتيمةِ، إذ لمْ تَسمَحْ شركةُ الطيران هُنا في البحرين بالإقلاع، مَعَ أنِّي توسّلْتُ بِكُلِّ دَمعي، وأَخبَرْتُهُم أنَّ المَوتَ أَخَذَ أَعَزَّ النَّاسِ مِنِّي، لكنَّهم أَبَوا.
قَسَماً، لا طَعْمَ ولا مَعنى لِدُنيا لستَ فيها يا أبا وليد، فواللهِ إنِّي أُغَالِبُ دمعي وأُكفْكِفُ نَزْفَ ألمي كلَّ يومٍ مِن وَجَعِ فَقدِكَ، وما زِلتُ أسألُ نفسي هل انتقلتَ حقّاً إلى الرفيقِ الأعلى يا أحبَّ النَّاسِ؟ هكذا ببساطة؟ ولكنْ كيفَ وأنتَ لَمْ تَشْكُ يَوماً مِن مَرَضٍ قد يُرديكَ عنَّا، إنَّما هو "السكّر والضّغط والنقرس" لا أكثر، مِثلَ كُلِّ النَّاسِ.. فكيفَ يقولُ الطبيبُ أنَّ هُبُوطاً حادّاً غشَّى قلبِكَ الطَيِّبِ، وأَخذكَ مِنَّا بهذه السُّهولةِ.
بالمُناسَبة، طالما تردّدتُ أنْ أطلبَ مِنكَ تَلقِّي لُقاح كورونا بسبب خشيتي عليكَ أو مِنكَ، لأنِّي كنتُ أعلمُ أنَّ هواجسَ الموتِ تُراوِدُكَ دوماً، خاصّةً عندما تَسمعُ أنّ واحداً مِن أصحابِكَ أو مِن أقاصي الأرض هَلَكَ بعد أخذِهِ المَطعومَ، وأنتَ لَمْ تَدرِ أنَّه يُجَهَّزُ لكَ ويُخَيَّطُ رِداؤكَ الأبيضُ في الغُرفةِ المُجاوِرَةِ، وَسيَطْلُعُ عليكَ نَهارٌ جديدٌ من دُونِي وأنا من دُونِكَ، وسأفقِد دِفْءَ حنانِكَ الَّذي كنتَ تَنشُرُهُ في كُلِّ زوايا البيتِ، يا مَن علَّمتني أولَّ "الفاتحة" وأبجديات الرُّجولةِ، ومَعنى الحَنينِ، وتقوى اللهِ.
هل هانتْ عليكَ العِشرةُ يا "غالي"، وأُمسياتُ الصّيفِ على "البرندا" يا حبيبي؟ أَعْلَمُ واللهِ أنّها ما هانتْ للحظةٍ. أذكرُ دموعَكَ الرقرَاقةَ وأنتَ تَستذكِرُ بِفَرحٍ أمامَ أحمد ومحمد ونهاد، أحفادِكَ، بُطولاتِ الشّبابِ الأوّل. أحمد مِن بَعدِكَ ظَلَّ أيّاماً وأيّاماً يَلْهَجُ بِذِكْرِكَ ودُموعُهُ تَغمُرُ لحيتَهُ وهوَ مُتلفِّفٌ بلحافِهِ يُداري حُزنَهُ عَليكَ، ويقولُ: "مش مصدّق أن جدّي مات"، ومحمد، كلّما جئنا على سيرتكَ الدافئة أَبْرَقَتْ عينَاهُ دَمْعاً، ونهاد تلحّ عليّ مُغرورقةً، بأن أَحُجَّ عَنكَ يا فقيدنا الغالي، هؤلاءِ هُم أَحفادُكَ الأبرارُ الَّذينَ لَمْ تَكتَمِلْ فرْحَتُهُم بأنْ تَظَلَّ مَعَهُم أيّاماً أُخَر.
ومَنزِلنا الّذي لَمْ يَكتَمِلْ بِناؤه بعدُ، هل تَذكُرُهُ؟ كُنتَ تُزيّنُهُ بِمَقدمِكَ بينَ وقتٍ وآخر وأنتَ في عِزِّ مَرَضِكَ تَحِثُ الخُطى المُثقَلَةَ بالألمِ، ولطالما تخيّلتُكَ فيه مَعنا يا رفيقي نتسامرُ ونوزّعُ الضّحكاتِ سَويّاً في ليالي الأُبوّةِ الحَنونةِ الّتي كنتَ تَغمُرنا بها صِغاراً وكِباراً.
قَبلَ أَيّامٍ قالَ لي محمد: "شايف بابا ما لنا حظ جدوه يدخل بيتنا الجديد"، وأحمد ما زالَ أسيرَ الحُزنِ عليكَ يُفتِّشُ في هاتفِهِ عن صُوَرِكَ القديمةِ، ويسترجعُ شريطَ الذِّكرياتِ مَعكَ ولحظاتٍ مرّتْ لَمْ يَنتبه يوماً أنّها لَن تَعودَ وستكونُ الأغلى في حياته.
هل تَذكرْ، عندما تَعثّرْتُ بثوبي، فقَفزتَ مِن مَقعدكَ مَلهوفاً، "سلمات سلمات"، وحينما جِئتُكَ مهموماً من شِدّة عَوزي وقِلِّةِ حِيلتي، بعدَ أنْ أُغلِقَتْ صَحيفةُ "العرب اليوم".. "لا تَهتمّ سيغيّرُ اللهُ حالاً من بعد حال"، قُلتَها وأظُنُّها كانتْ دَعوةً مُستجابةً، فاستجابَ لك سبحانه.. رَغم صُعوبةِ تلكَ الأيّامِ إلّا أنّ حُضورَكَ فيها كانَ دائماً يُعطيها معنىً آخر وطُهْراً لا يُدانيه طهر.
مَقعدُكَ الفَارِغُ، رفيقُكَ في الصّلاةِ في أيّامِكَ الأخيرةِ ما زالَ يَحِنُّ إلى لَمَسَاتِ يَدِكَ الدَّافِئةِ، وخُدوشُ أظفارِكَ المَرسومةِ هُناك على خَدِّهِ الأيمنِ تَشْهَدُ.. تَرَجّلْتَ وتَركْتَهُ وَحيْداً في عُتمَةِ الزَّمَنِ كَمَا فَعَلْتَ فِعْلَتَكَ بِنا، هُو يَشهَدُ كيفَ كُنْتَ ذَاكِراً للهِ، تُسَبِّحُ بالعَشِّيِّ والإبْكَارِ، شَاكِراً لأنْعُمِهِ، طَائعاً في المَغفِرَةِ كَمَا كُنْتَ طَائعاً في المَوتِ أيضاَ.
مَقعَدُكَ اليَومَ، مِثْلَ شَيْخٍ طَاعِنٍ كُسِرَ ظَهْرُهُ وتَخَلَّى عَنهُ أصحابُهُ، لَمْ يَعُدْ يَحتَلُّ مَكانَهُ في ساحةِ المَنزِلِ كَمَا كان في عَهْدِكَ، طَواهُ الأَسَى، وتَوشَّحَ بالسَّوادِ مَعَ أنَّهُ جميلٌ ناصِعٌ مِثلُكَ تمَاماً، كأنِّي بِهِ يَذْرِفُ الدَّمْعَ عليكَ بسخَاءٍ، مُتواصِياً بالصَّبرِ بَعْدَ أنْ ظَلَّ أَنِيْسَكَ في سَاعاتِ العَصرِ حيثُ تَطيبُ لكَ قِراءةُ القُرآنِ.. آهٍ "يا بوي"، أُناجي رُوحَكَ الغَائِبَةَ، وَلَمْ أَكُنْ أدري أنّ مُصابَنا الجَليْلَ فيك سيُضَاعِفُ كُلَّ هذا الشَوقَ إليكَ.
وَبَعْدَ أنْ تَوالَتْ الأيّامُ وَجَفَّ الدَّمْعُ، وتَقَطَّعَ الكَبِدُ كَمَداً، أُحَاوِلُ قَدْر الإمْكَانِ أنْ أُرَوّضَ مَشَاعِري الجَيّاشَةَ، وأَتَخَفّفَ مِن وَطْأةِ الحُزنِ على رَحيلِكَ الَّذي أَسْهَدَ مَضْجَعي يا صاحبَ الرِّفْعَةَ، لكنْ لا تَقلَقْ يا حبيبي أَعِدُكَ بأن أَزوْرَ مَرقَدَكَ لأؤنِسُ وَحْشَتَكَ، ولا أنسى قبرَ رفيقةِ دربِكَ الطَّويلِ أُمّيِّ الحَنونة، وكذلكَ شقيقتي الصُغرى الّتي سالتْ دِماؤها البريئةُ على الإسفلتِ ذاتَ نهارٍ بسببِ سائقٍ متهوّرٍ، وسأنصُبُ الشَواهِد على أضرحتِكُم جميعاً، لِتَشْهَدَ أنَّ مَوتَ الأحبّةِ فِقدانٌ وبَليّةٌ ورِحْلةُ شَوقٍ لا تَنْتَهي وسَتَترُكُ في القَلبِ نَدبَاتٍ لا يَزولُ أَثَرُهَا مَهمَا طَوى الزَّمَنُ مِن أعَمَارِنَا كَمَا طُوِيْتُم.. لكنْ واللهِ مَا يُهَوِّنُ مِن عَزائنا بِرحيلِكَ إلّا حُسْنُ سِيْرَتِكَ البَاقِيةِ وذِكْرُكَ الطَيِّبُ على أَلْسُنِ مَن أَلِفُوا مَعْشَرَكَ، وما هذهِ إلا تَرِكَةٌ نَفِيْسَةٌ نَحْفَظُهَا مِن بَعْدِكَ.
برحمتكَ يا اللهُ اِرْحَمْ أبي، فلقد كانَ شَيِّقاً مُشتَاقاً للنَّظَرِ إلى وَجْهِكَ الكريمِ، مُقْبِلاً إلى جَنَّاتِكَ جَنَّاتِ الخُلْدِ، يا أَكْرَمَ الأكْرَمِينَ، وَظَلَّ مُبْتَهِلاً سُبْحَانَكَ حتى وهو يَشْهَقُ أنفاسَهُ الأَخِيْرَةَ، وَيَرْفَعُ إليكَ سَبَّابَتَهُ بالشّهادَةِ طِائعاً مُستَسلِماً، كَمَا أَخَبَرَنِي مَن التَفُّوا حَوْلَهُ في دَقَائقِهِ الأخِيْرَةِ.
اللَّهُمَّ يَا ذا الجَلالِ والإكْرَامِ أَكْرِمْ نُزُلَ أبي واغفرْ لَهُ وارْحَمْهُ وعَافِهِ واَعْفُ عَنْهُ وَوَسِّعْ في مَدْخَلِهِ واغْسِلْهُ بالمَاءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِن الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثُّوبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ. -"أرجوكم خالص الدعاء لوالدي"- للهِ مَا أَخَذَ وللهِ ما أَعَطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَه بِمِقْدَارٍ، وإنِّا للهِ وَإنِّا إليْهِ رَاجِعُونَ.