منذ انهيار جدار برلين واستعمار الاقتصاديين لعلم الاجتماع والسياسة بالكامل, سعت الحملات الليبرتارية, لتحجيم مدى الدولة وإلى إضعاف قدرتها المؤسساتية, والليبرتارية تعني «فلسفة الحرية ويسميها البعض مذهب مؤيدي مبادئ الحرية، هي المذهب السياسي الفلسفي الذي من أولوياته الحفاظ على الحرية الفردية، ويدعو إلى التحرر وازالة القيود المفروضة على الفرد من قبل الدولة والمجتمع كالعادات والتقاليد وتقليص حجمها قدر المستطاع», وتعالى شأن انصار هذا المذهب في دول العالم الثالث, على شكل منظمات مجتمع مدني وهيكليات مؤسساتية مفصولة عن جسم الدولة.
هذه النظرية المدعومة من انصار نهاية التاريخ, واعني اليمين الأميركي, نجحت عبر أذرعها المنتشرة في دول العالم الثالث وتحديدا خريجي الجامعات ومراكز الأبحاث هناك وجلّهم من المبتعثين أو الحاصلين على المنح الجامعية, في زعزعة البناء المؤسساتي للدولة ونحن من ضمنهم, فعلا شأن منظمات المجتمع المدني المستوردة والمبسترة, فرأينا حضورا طاغيا لها في مجتمعاتنا المحلية, وتحولت إلى قوة مجتمعية, مستفيدة من حجم الأموال المضخوخة وبهرجة الشعارات الديمقراطية الزائفة ومناقشة المسكوت عنه مجتمعيا, وأمام هذه الهجمة المالية والسند الرسمي, نجحت هذه القوى المنظمة والمربوطة بخيط دقيق ومتين بيد الممول, في إنهاك مؤسسات المجتمع المدني الوطنية وأعني النقابات المهنية والعمالية, وانهكت الاحزاب ايضا.
بريق ساحر وجاذب, فنادق خمس نجوم وبوفيهات فارهة, كان هذا مدخل تلك المنظمات إلى المجتمع, وحديث ساخن وسقوف مرتفعة ومبشرون يرطنون بلغات أجنبية وأفكار لم نعهدها في الأردن, وبدأت بعناوين جاذبة حريات صحفية وإصلاحات سياسية وتنظيمات مجتمعية, وهيكل إداري جديد للدولة, يقوم على إخراج الدولة من السوق لصالح البناءات الجديدة, الهيئات المستقلة الوارثة لمؤسسات الدولة المخصخصة, تلك المؤسسات الجاثمة على صدر الاردنيين وتقود الخدمات بنظام بيروقراطي مثخن بالعيوب, لكننها اغفلت بعمد شديد, خطورة خروج الدولة من وضع السياسات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة, وهما الاشكاليتان التي نعاني من غيابهما الآن, وافرزتا هذا الجو السلبي والغاضب.
مؤسسات المجتمع المدني الممولة بملايين الدولارات والمؤسسات المستقلة, اول فيروس نخر الدولة, واضعفا البناء المؤسساتي لها, فقد استكانت الوزارات المعنية بالخدمات والشؤون الاجتماعية إلى دور هذه المؤسسات, فيما انحازت المالية العامة الى فقه النمو واغفلت انعكاسه على التنمية, هذا الفيروس اضعف مدى وقدرة الدولة في آن واحد, فمدى الدولة هو افق انشطتها ومجالاتها ووظائفها المختلفة, بدءا من توفير الامن والنظام والمرافق والخدمات العامة وتوفير التعليم ووضع السياسات الاجتماعية والاقتصادية في الداخل, والدفاع عن الوطن وصون حدودخ في الخارج, اما قوة الدولة فهي قوة قدرة مؤسساتها على تصميم السياسات وسن الانظمة والقوانين ووضعها موضع التنفيذ.
اليوم ونحن نسعى الى دخول المئوية الثانية بعقل منفتح وقلب سليم, يجب ان نعيد الاعتبار لمدى الدولة وقوتها, ليس على اسس زبائنية, بل على اسس منهجية جديدة, أولها ان من اوصلنا الى الازمة لا يمكن ان يحمل الترياق او الحل, وثانيها ان نبني السردية الاردنية الوطنية على اسس علمية وقد اظهرت استطلاعات الرأي التي انتجتها مؤسسات وطنية موثوقة توق الاردنيين لإصلاحات جذرية, لكنها لا تثق ابدا في بعض القائمين على الاصلاح من طبقة السلطة, فلغز الثلثين الحاضر في كل استطلاعات الرأي كما يقول الدكتور زيد عيادات رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية, وهو احد ابرز مراكز الابحاث المقدرة, يجب ان يجد صداه لدى صانع القرار, فالثلثان محبطان ولا يجدان نافذة امل, وهذا يعني اننا نراوح مكاننا, ولكن بكلفة تزداد مع كل تأخير عن الاصلاحات الجادة.
(الرأي)