بريطانيا وازدواجية المعايير .. بين المقاومة والإرهاب
منيب رشيد المصري
07-03-2022 12:08 AM
أساس الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني حتماً لم تبدأ منذ العام 1948، بل بدأت قبل ذلك بكثير عندما التقت مصالح الحركة الصهيونية مع مصالح الدول الاستعمارية، وبخاصة بريطانيا، التي أصدرت إعلان بلفور في الثاني من نوفمبر من العام 1917، وهيأت كل الظروف لكي تتمكن الحركة الصهيونية من تجسيد هذا الإعلان العنصري غير الاخلاقي وغير القانوني على الأرض، وكان هذا بمكانة إرهاب دولة وجريمة كبرى بحق شعب يعيش داخل أرضه ولم يعتدِ على احد قط.
فمنذ دخول القوات البريطانية إلى فلسطين، وقبل صك الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم المتحدة والذي أضفى شرعية على الوجود البريطاني على أرض فلسطين التاريخية، والمفارقة أن صك الانتداب البريطاني على فلسطين تضمن ما جاء في إعلان بلفور، وهذا يثبت نوايا بريطانيا من هذا الانتداب، عملت سلطة الانتداب على تنفيذ طموحات اليهود الصهاينة كما ذكر في وعد بلفور، وكانت غير معنية بتاتاً بحقوق الشعب الفلسطيني، أو بتأهيله للاستقلال، وهو الهدف المعلن لسلطة الانتداب، بل على العكس من ذلك كانوا يعملون على قمع الحريات، وقمع الثورات التي كانت تطالب بوقف هجرة اليهود الصهاينة إلى أرض فلسطين وتسليحهم والسماح لهم باستملاك الأراضي وإقامة المستعمرات عليها، وأيضا رفض الممارسات البريطانية الإجرامية، وكانت بريطانيا ممثلة بمندوبها السامي تعمل بشكل دؤوب وبالتنسيق مع الوكالة اليهودية والتنظيمات المسلحة اليهودية من أجل تهيئتهم لاستلام زمام الأمور وخلق وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
ومن أجل تنفيذ هذا المخطط عملت حكومة الانتداب البريطاني على تسليح وتدريب فيلق يهودي بحجة المحاربة بجانب قواتها في شمال أفريقيا، أثناء الحرب العالمية الثانية، علما بأن هذا الفيلق لم يحارب، وإنما اختفى مع كامل معداته وأسلحته واصبح نواة الجيش اليهودي (عصابات البالماخ وشتيرن والارغون وغيرها) الذي قام بطرد وتشريد السكان الفلسطينيين من مدنهم وقراهم بالتنسيق الكامل مع القوات البريطانية التي كانت تنسحب تدريجياً من مدينة إلى أخرى وتسلم المواقع والاسلحة للقوات اليهودية (الذي بلغ قوامها تقريباً 80 ألف جندي). وأيضاً كانت تتسامح وتنسق مع العصابات الصهيونية حين كانت تسطو على المستودعات العسكرية البريطانية دون أي ردة فعل من جانب حكومة الانتداب، لا بل ساعدتهم في بناء مؤسسات الدولة اليهودية التي مارست ولا تزال تمارس الإرهاب بحق الشعب الفلسطيني.
بالتوازي مع تسليح وتدريب عناصر الحركة الصهيونية، كانت حكومة الانتداب تفرض أشد العقوبات بحق أي فلسطيني يملك قطعة سلاح، وتقوم بمعاقبته بسجنه أو هدم بيته أو حرق زرعه أو نفيه وتشريده، علماً بأن هذا الشعب كان يقاوم الإرهاب الذي يمارس عليه من طرف دولة الانتداب ومن طرف العصابات الصهيونية.
مع كل هذا الدعم الموجه إلى العصابات الصهيونية، ومن اجل تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، ارتكبت المذابح ومارست العنف الاجرامي بحق السكان، واستهدفت الحركة الصهيونية المسيحيين الفلسطينيين بشكل رئيسي في عمليات التهجير، الذين كانوا يشكلون 30% من مجمل الشعب الفلسطيني، والآن لا تتعدى نسبتهم 1.5% فقط، لتقول للعالم بأن هذه الأرض يسكنها فقط «مسلمون» وهم ليسوا أصليين في هذه البلاد بل أتوا خلال الفتح الإسلامي، والآن الإسلام يخرج منه القاعدة وداعش، ويجب علينا محاربة هذا الإرهاب الإسلامي الذي جزء منه سكان فلسطين، فمن ضمن حرب الحركة الصهيونية، ومن يواليها، على الشعب الفلسطيني هي الحرب الدينية التي تعتمد على الأسطورة والمغالطات التاريخية. وما الربيع العربي وكل مفرداته بالإضافة إلى السياسات الأخرى التي تعتمدها إسرائيل وبريطانيا وأميركا إلا آليات لتجسيد «صفقة القرن» على أرض الواقع دون الإعلان رسمياً عن ذلك.
نتيجة لكل هذه الفظائع المستمرة بحق الشعب الفلسطيني ظهرت حركات المقاومة الفلسطينية على اختلاف تسمياتها، ساعية للوصول إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته مثل باقي شعوب الأرض، وأن القانون الدولي وبشكل واضح وصريح أعطى لحركات التحرر الوطني الحق الكامل بمقاومة الاحتلال بكل الوسائل بما فيها الكفاح المسلح.
لا شك بأنه حيث يكون احتلال تكون مقاومة، فالاحتلال هو الإرهاب بعينه وليست الحركات المقاومة هي الإرهاب، ولا يمكن وبل المقاييس الأخلاقية والقانونية اعتبار هذه المقاومة ارهاباً كما تسعى إلى وصمها العديد من حكومات أوروبا بما فيها بريطانيا وأيضا الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يدلل أن هذه الدول لا تتعامل فقط بازدواجية المعايير لا بل لا تحترم أيضا القانون الدولي، وهي فعلياً من تمارس الإرهاب بحق الشعوب.
أصدرت حكومة بريطانيا إعلان بلفور دون عرضه، في حينه، على برلمانها معتبرة هذا الاعلان شرعياً لا بل طالبت أيضا بضمه إلى صك انتدابها لفلسطين وكان لها ذلك، ولكن وعندما أرادت ذات الحكومة اعتبار حركة حماس منظمة إرهابية عرضت هذا الاقتراح على برلمانها لاعطائه الشرعية الدستورية.
والسؤال لماذا يتم عرض هذا الاقتراح على البرلمان قبل إصداره، ولم يعرض، في حينه، إعلان بلفور على ذات البرلمان؟، الجواب بسيط جداً لأنهم يعلمون أن هذا الإعلان هو غير أخلاقي وغير قانوني، وقد يسقط في البرلمان، أضف إلى ذلك أن حكومة بريطانيا تفعل كل ذلك في سياق الاستمرار في سياساتها الاستعمارية المناهضة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وقواه التحررية، وأيضاً في سياق مخطط شامل لشيطنة كل تحرري عربي ووصمه بالإرهاب، وأضيف إلى ذلك أيضا بأن الحركة الصهيونية أصبحت متغلغلة تماماً في مفاصل الدولة ولها أذرعها داخل أروقة الحكم وسوف تمرر أي اقتراح يصب في صالحها.
إن اعتبار حكومة بريطانيا حركة حماس حركة إرهابية، لن يغير من الواقع شيئاً، ولا يمكن لأي فلسطيني أن يقول عنها إنها حركة إرهابية أو أن يتعامل مع هكذا مفهوم بحق أي من فصائل المقاومة الفلسطينية التي هي أساساً تدافع عن شعبها من جرائم الاحتلال ومن يقف خلفه، وإن نضال الشعب الفلسطيني منذ العام 1917، لغاية الآن هو نضال من أجل الحصول على حقه في تقرير مصيره الذي سلبه منه إعلان بلفور حينما اعتبر أصحاب الأرض التاريخيين عبارة عن طوائف غير يهودية مقيمة في فلسطين، وسلب حقهم الطبيعي في ممارسة كافة حقوقهم المدنية والسياسية على أرضهم.
ونقول ليس فقط لحكومة بريطانيا بل لكل الحكومات التي تتعامل بازدواجية المعايير، التي كشفتها بشكل واضح الحرب الروسية الأوكرانية لا يخدم السلام والأمن، لا بل يزيد من انتشار العنصرية والحروب القائمة على أساس عرقي في هذا العالم الذي نصبوا أن تعيش فيه البشرية بسلام وأمن وتعاون، فلا يعقل أن يستنفر العالم بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا لفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا بعد عشرة أيام من ابتداء عمليتها العسكرية في أوكرانيا والسكون 75 عاما على احتلال وجرائم «إسرائيل» بحق الشعب الفلسطيني.
بالرغم من قناعتي الثابتة بأن وعد بلفور وإقامة دولة إسرائيل واحتلالها لبقية فلسطين، والسياسات الحالية لحكومة إسرائيل وحكومة بريطانيا وأميركا جميعها غير شرعية ومخالفة لمبادئ العدالة ومواثيق الأمم المتحدة، وان من حقنا أن نقاوم هذا الظلم بجميع الوسائل المتاحة إلا أنني شخصيا مقتنع بضرورة العمل بالطريقة السلمية. لقد قمت بتشجيع جميع مبادرات السلام ومن هذا المنطلق أيدت وشاركت القيادة الفلسطينية بجميع محاولاتها لخلق سلام عادل مع دولة إسرائيل،اما عبر دولتين كما جاء في مبادرة السلام العربية او بحل دولة ديمقراطية لجميع سكان فلسطين ولا مكان للمتعصبين الصهاينة الذين ينادون بدولة يهودية ولا نقبل بالوضع الراهن.
وكل يهودي بالداخل والخارج يعرب عن استعداده إلى سلام عادل.
غير أن محاولاتي المستمرة عبر أكثر من خمسين عاما باءت بالفشل الذريع.
قمت بمبادرات عديدة شخصياً والاشتراك مع القيادة الفلسطينية وكنت عضواً في لجنة أسسها الرئيس محمود عباس للتواصل مع الشارع الإسرائيلي للعمل على تشجيع لحل الدولتين والوصول إلى تسوية تحقق بعض العدالة لشعبنا الفلسطيني رغم ما في ذلك من إجحاف لحقوقنا المشروعة وثابرت في ذلك رغم استمرار الاستيطان والاحتلال والممارسات اليومية والمعاناة الشديدة، وبادرت في قيام ما سمي حينه مبادرة كسر الجمود جمعت شخصيات وازنة فلسطينية وإسرائيلية وعربية ودولية برعاية المنتدى الاقتصادي العالمي، جميع هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع لان الطرف الأخر ما زال متمسك بوثيقة إعلان بلفور والطموحات الصهيونية فيه والتي ما زالت حتى هذا اليوم تنكر على الشعب الفلسطيني أي حقوق سياسية أو سيادية كما هو واضح بالإعلان المشؤوم.
أعي تماماً أن إصراري على رفض إعلان بلفور وإصراري على قيام دولة فلسطينية مستقلة لا يروق للسلطات التي عملت على إصدار هذه الوثيقة وتوابعها، لا بل تتعامل مع الشعب الفلسطيني على أنه مجموعات بشرية بلا حقوق وبلا تاريخ، لذلك أقول إن ازدواجية المعايير التي تتعامل بها بريطانيا وغيرها من الدول فيما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها لن يثني شعبنا عن مواصلة النضال، وصراعنا طويل ونحن لدينا النفس الطويل للوصول إلى إنهاء الحلم الصهيوني في دولة من النيل إلى الفرات، وتجسيد الحقيقة والرواية الفلسطينية لأنها هي الأصل، وهم الباطل.
(الرأي)