أذكرُ تماماً كيف وقفَ الشّابُ يراقبُها… يراقبُ السّيجارةَ في يد أحد الزّائرين لمحميّة ضانا، ثمَّ وفي الّلحظة التي كاد الرّجلُ فيها يلقي عقبَها من على الشّرفة السّاحرة … أذكرُ كيف هرع الشّاب لالتقاطها وهو يقول بمودّة: «سامحني، لكنَّ هذه القطعةَ ستحتاجُ إلى عشرات السّنين كي تتحلّل، ممّا سيؤثر على التّربة، ونقاء البيئة في هذه البقعة.»
حدثَ ذلك قبل أعوامٍ طويلة، ثمَّ لأعودَ قبل أيّام، وأرى موظّفاً آخر في محميّة الشّومري البيئيّة، وخلال جولةٍ هناك، يوقف المركبة فجأةً ليقفزَ منها، ويهرع لالتقاط كيسٍ بلاستيكي كان الهواءُ قد حمله إلى المكان، ثمَّ ليتابعَ الحديثَ عن الجهود الحثيثة المبذولة للحفاظ على تكاثر حيوان «المها» الذي كاد ينقرضُ بسبب الصّيد الجائر… بسببِ متعة القتل في المكان الباهر بأعشابه الغريبة الجميلة، وألوانه المتعدّدة، وامتدادِه الرّحب!
وضمن رحلات «أردّننا جنّة» ثمّة زياراتٌ إلى منطقة الأزرق ومحميّتها الطّبيعيّة هناك، حيثُ يوجد نوعٌ فريدٌ من الأسماك تتفرّدُ الأردن بوجوده، لكنّك تحزنُ لمّا ترى انحسارَ المياه بسبب الاستنزاف المائي لخدمة العاصمة، والذي أثّرَ على مرافقِ المحميّة كافّة.
والحديثُ قد يطول حول محميّاتٍ أخرى على امتداد الوطن، تشكّلُ حالةً استثنائيّةً خاصّة قلَّ نظيرُها في المنطقة، ولعلّها تشكّلُ طفرةً في العادي والمألوف والسّائد في بلدنا، فالجمعيّة الملكيّة لحماية الطّبيعة تأسّست عام 1966 يعني قبل كلامنا الطّويل المكرّر الممّل عن مبدأ «الدّيمومة والإدامة» إذ اعتدنا على بتْرِ أي مسيرة توهّج إدارية كانت أو غيرها، إذ إنَّ بعض المؤسّسات، مثل بعض البشر، تُصابُ بالغرور حال ارتفاع صيتِها، فيتراجع أداؤها، تبعاً للمثل القائل: «إن طلع صيتك، حط راسك ونام».
أمّا أن تصمدَ جمعيّةٌ طوال هذه السّنين، وتصرَّ على تحقيق رسالتها ورؤاها دون استعراض، ودون ضجّةٍ إعلاميّة، لأمرٌ يدعو إلى الكثير من الدّهشة والاحترام والانبهار، إذ يمكنك تخيّلُ المعارك الصّامتة التي تخوضُها يوميّاً مع الثّقافات السّائدة؛ بدءاً بانعدام النّظافة، مروراً بالبيروقراطيّات الحكوميّة، وانتهاء بالإساءة إلى البيئة، ولعلَّ معركتَها الأشرس ستبقى مع بعض عشّاق القبْح والّلامبالاة والفوضى!
باختصار، ودون كلامٍ إنشائيّ مزوّقٍ منمّق، هذه الجمعيّة العريقة المتجدّدة تعملُ رديفةً لوزاراتٍ عديدة في آنٍ معاً، مثلَ وزارة العمل، إذ تحرصُ على توظيفِ أبناء المنطقة ذاتها في محميّاتها أينما كانت. وكما تُعين وزارة الزّراعة ومديريّة الحراج، حين تحمي التنوّعَ البيئي، والغاباتِ والنّباتاتِ النّادرة، وتلتقي مع وزارة البيئة في كلِّ ما تبذله من جهود استمرّت إلى أكثر من نصف قرن حتى يومنا هذا، إذ هي أقدمُ من الوزارة نفسها!
ولو تمَّ التّنسيق المطلوب، لكانت خيرَ مُعين لوزارة التربية والتّعليم والتّعليم العالي كذلك، في تكريس أي معلومة تتعلّقُ بعلوم البيئة في مدارسنا وجامعاتنا، عبر تنظيم زياراتٍ طلابيّة لمحميّاتها الجميلة المترامية الأطراف.
أمّا السّياحة، فالجمعيّة تقدّم الصّورةَ الحضاريةَ المشرقة للأردن، ومواقعِه المختلفة أمام السيّاح جميعهم من أنحاء العالم كافّة. وأخيراً، فالجمعية الرّاقية النّبيلة تلتقي مع وزارة الثّقافة ببساطة، إذ تكرّسُ قيمَ الجمال، واحترامِ الحياة على هذه الأرض بكلّ تجليّاتها!
(الغد)