أطاحت انتفاضة شعبية بالرئيس الاوكراني يانكوفيتش الموالي لروسيا وكانت ايذاناً بخروج أوكرانيا من المظلة الروسية الى الفلك الأوروبي فكان رد موسكو على هذه الهزيمة الاستراتيجية السيطرة على شبه جزيرة القرم منذ عام 2014 وتكمن أهمية أوكرانيا من وجهة نظر روسية أنها إحدى بواباتها الثلاث (القوقاز وسط آسيا أوكرانيا ) حيث كانت السهول الأوكرانية ممراً لقوات نابليون وهتلر الغازية لموسكو.
بنظرة بسيطة للخارطة نجد أن المنفذ الوحيد لروسيا على المياه الدافئة هو البحر الأسود حيث تتشارك شواطئه مع دول محسوبة على المعسكر الغربي (تركيا ,رومانيا , جورجيا , بلغاريا) وإذا ما أضفنا تقدم حلف الناتو في دول شرق أوروبا وبحر البلطيق (لاتفيا , لتوانيا, أستونيا ) يكون الحلف قد طوق روسيا من حدودها الجنوبية والغربية مما يشكل تهديداً استراتيجيا لها ولذلك فإن المطلب الروسي يتركز بعودة الناتو الى أماكن تواجده عام 1997 ووقف توسعه شرقاً.
هذه ألازمة متعددة الوجوه والجوانب وما يهمنا فيها أكثر هو أثرها على الاقتصاد العالمي وخاصة في قطاعي الطاقة وألأمن الغذائي فروسيا ثاني أكبر منتج للنفط وأكبر منتج للقمح وبعض المعادن الثمينة مثل البلاديوم وأحد أغنى ثلاث اقتصاديات بالموارد.
يعتمد الاتحاد الأوروبي في طاقته على روسيا وبنسبة تصل الى 40% للغاز الطبيعي و 27% للنفط, فألمانيا تعتمد على روسيا 65% من طاقتها بعد ان تخلت عن المفاعلات النووية ويكفي أن نعرف أن أنبوب الغاز نورد ستريم 2 سيوفر حال تشغيله بين روسيا وألمانيا 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً, هذا الاعتماد المتزايد لأوروبا على الطاقة الروسية أثار حفيظة الولايات المتحدة ومعارضتها لتنفيذ مشروع نوردستريم 2 لأنه سيبني جسور الثقة بين روسيا وأوروبا مما يفقدها مكانتها كلاعب قوي ووحيد في القارة العجوز , وهذا ما أكد عليه كتيب السياسة الخارجية الامريكية تحت عنوان فرق تسد " تحتاج واشنطن إلى خلق تصور بأن روسيا تمثل تهديداً امنياً لأوروبا" .
ما يشجع روسيا على الاستمرار في عملياتها العسكرية في أوكرانيا أنه يمكن تعويض السوق الاوروبي بالسوق الصيني , وتجدر الاشارة أن تعويض حجم الصادرات الروسية من الغاز لأوروبا سيكون صعباً بسبب التزام المنتجين العالميين مثل قطر واستراليا والنرويج بعقود في آسيا وكذلك لوجود صعوبات لوجستية تتعلق بالنقل والتخزين مما يعني أن الأوروبيين سيدفعون ثمناً أكبر للطاقة مما ينعكس سلباً على تنافسية صادراتهم .
يصدر طرفا الازمة 23% من القمح العالمي وخاصة لدول الشرق الأوسط حيث تعتمد مصر ولبنان واليمن وعمان والأردن على القمح الأوكراني بنسبة 40% , وإذا كان من الممكن نظرياً تعويضه من الولايات والمتحدة وأستراليا وكندا وفرنسا إلا أن كلفة استيراده ستكون كبيرة من هذه الدول مما ينعكس على الأمن الغذائي لها ويحتم عليها البحث عن مصادر أخرى مع إعطاء الأولوية لإنتاجه وطنياً حيث نشير الى أن الجوع هو المحرك لما عرف بثورات الربيع العربي.
هذه الحاله من عدم اليقين في قطاعي الطاقة والأمن الغذائي ستنعكس سلبا" على الموازين التجارية لغالبية دول العالم المستهلكة للسلع وسيكون الأثر أكبر على الدول غير النفطية ,وعلى سبيل المثال تستورد الدول العربية مواداً غذائية بأكثر من 120 مليار دولار سنوياً .
اتخذت العقوبات الغربية على روسيا بعداً إقتصادياً انحسر في منع شركات الطيران الروسية من استخدام المجال الجوي للعديد من الدول الأوروبية وحرمان البنوك الروسية من الإقتراض والإقراض خارج روسيا ومنع تصدير المعدات والتكنولوجيا الحيوية لتجديد مصافي النفط . والتهديد بسحب الإستثمارات حيث باعت شركة برتش بتروليوم حصتها البالغة 20% في عملاق النفط الروسي المملوكة للحكومة روسنفت مما يعرض الشركة لخسارة تصل الى 25 مليار دولار , الا أن روسيا كانت مستعدة لمثل هذا السيناريو حيث تمتلك إحتياطياً من العملات الأجنبية يغطي مستورداتها لسنتين وكذلك فإنها تراهن على مكانتها في سوق الطاقة العالمي ,وكذلك فإن روسيا مهددة بالحرمان من إستخدام نظام سويفت للتحويلات المالية الدولية ولكن هذا لايشكل عبئاً عليها حيث أنها تستطيع إستخدام نظام التحويلات الصيني مما يضعف على المدى الطويل الدولار كعملة رئيسية في المعاملات التجارية الدولية .
فالعالم ليس بصدد حرب باردة جديدة لأن أطرافها لا يتحملون حرباً طويلة الأمد ولكن ما يحدث يؤكد صوابية رؤية القيادة الروسية أن الخطر الاستراتيجي يكمن في الجوار القريب , لذا تسعى روسيا الى توسيع فضائها الحيوي وستقبل باوكرانيا محايدة ومنزوعة السلاح فهي تسعى وبدعم من الصين وحلفائها أن تكون رأس الحربة في محاوله لتغيير شكل النظام العالمي , ليصبح متعدد الأقطاب , فهل ستنجح بذلك ؟؟؟؟ أم أنها أساءت تقدير الموقف سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً .