أمسحُ بيدي الحرب عن بدلة الجندي
ابراهيم جابر ابراهيم
04-03-2022 11:58 PM
أقطعُ صورة امرأةٍ في الحرب، من قصاصة جريدة، وأسألها إن كان بإمكاني أن أغني لها قليلاً ريثما يسكتُ القصف؟
ليس لديَّ صوت مناسب للغناء، لكنَّ لديَّ خبرةً صغيرةً في مُشاغلة الحرب!
أمسحُ بكفّي الغبار عن إفريز شرفتها، فتغطسُ أصابعي في بقعةٍ حمراء صغيرة، وطازجة، .. ثم تسقطُ في البقعة نقطةٌ حمراء كبيرة.
أنظرُ للأعلى: أرى طائراً يعرجُ في السماء بقدمٍ نازفة!
أضمِّدُ حائط “بلكونتها الصغيرة” بكلامٍ سريعٍ عن “ضرورة أن يحلَّ السِّلمُ الآن”، وأنا في الحقيقة أفكِّر بشراهةٍ كيف تبدو الآن: نائمة، أم تلمُّ شَعرها بمطاطةٍ صغيرة وتمسح الرخام بيدٍ وتبكي باليد الأخرى!
أو ربَّما تحدِّثُ نباتاتها..
لا شيء يوقف الحرب مثل فكرةٍ نابيةٍ، وليس هناك من شتيمةٍ نابيةٍ للحياة أكبر من أن تزرع امرأةٌ في بلكونتها شتلةً صغيرةً خضراء في قذيفةٍ مُستعملة!
أعلِّقُ صورة الجريدة فوق رأسي، وأسمّي المرأة “لي”، كي أسمع عويل الميتين حين ينامون بقربها، وأسمع عواء الذئبة في المرأة حين تنامُ وحيدةً، وكي.. لا يكون لي في أساي سواي!
الحربُ لا تنام، ولا تنامُ النساء الواثقاتُ بكيدِهنّ.
يقتُلن من الرجال أكثر مما تفعلُ الطائرات السخيَّةُ، أو الجنودُ المدرَّبون، ثم يطوين الألاعيب تحت باقي الكلام؛ كما يعيد ساحرٌ أفعاه الى جرابها.
أمّا المرأةُ، في الصورة، فكانت تقفُ في الفجر، على شرفتها، تلفُّ بلادَها بشال صوف، وتدعو للشوارع المضيئة وللأشجار الواقفات على طرف الرصيف مثل طالبات المدارس.
يمرُّ الهواء خفيفاً من شَعرها، فتنزلُ على خدها دمعةٌ ساخنة.
هكذا الحرب: لا تَحفلُ بامرأةٍ في أوّل الحب، ولا تنتظرها.
أمَّا المرأةُ، في الصورة، فلم تَجفل حين صَوَّرَتها الطائراتُ وهي توزعُ الأدعيةَ مع صحون الفاصولياء على الجنود، أو تمشِّطُ شَعرها النازل من طرف الجريدة على ركبتي. وتمسكُ البلد من يدها لتقطع بها الشارع العريض؛.. تدوّي صفّارات الإنذار فتنامان مثل حكايةٍ وابنتها.
ثم يدوّي الشتاء ويدوّي الغناء.
هكذا الحرب: لن تَسمعي جيداً ما أتمتمُ في بلادٍ أخرى!
في المطبخ، وهي تعدُّ القهوة، للرجل الذي عاد. تضعُ بعض القرنفل المطحون في يدها لتفرك الحربَ عن بدلة الجندي.
(الغد)