في هذا العام الذي فقدت فيه والدي؛ أغلى الرجال وأحلاهم، قمر الجيل وزينة المكان، صنوان العز وصفاء العطاء. يمضي مشـوار العمر متثاقلا، ويترنح الزمن من ألم البعد، ويتوحش المكان وتتعمق ظلمته، متغزرةً غربتي في هذه الدنيا. فأهيـم على وقع الذكريات وصخب الحنين وضجيجه، والقلب مغمور بوجع الفراق، وطافح بلهيب الشوق وحنين المسافات البعيدة.
أنتظر والـدي كما الأطفال يراقبون ضوء القمر في عتمة الليل من شبابيكهم الحزينة، ولا أراه. فألملم شيئا من ماضٍ جميل؛ متعلقاته العتيقة، صوره البهيجة، أصواته المنغمة بالصدق، دعوات منه لا يوصد بوجهها باب، منافذها متصلة مع ابتهالات السماء. ولكن، لا أعثـر على تلك الشذرات العبقة، ولا أسمع الصدحات النقية، فأظـل مكسور الوجدان، ملتحفا أغطية الحزن، كخيل شرد ولن يعود.
ومع صهيل حزن هذا الغياب، أبحث في حاكورة عمري عن ركن يأويني، عن ظل يحميني من أشعة الزمن الحارقة، عن مكان لا تتجافي فيه جنوبي كغضبة خيل ترفض الاستسلام. فيطلّ والدي غيثا يـُندي صحرائي برذاذ الأبوة ونسمات الحنو، ويشرق وهج حياة، تبعث ذكراه فسحة أمل، يشدني إليه وصل حب بين أرق الحياة وعتمة الموت.
وأبقـى غير متصدق بفكرة الموت، ولا أقارب الوعي مع لحظة الغياب في بهجة الحضور المهيب، حتى يرجمني الشوق بحصى الحسرة الموجعة، ويغرقني موج العتاب على كل ساعة لم ألتزمها رفقة والدي. فيتكاثر حزن الغـروب لحظة الفجر، وتذرف الدموع على شاهد القبر، ويمضي مشـوار العمر، مواقف تختلجها المشاعر بترويدات مفجوعة على عتبات الفراق.
والدي؛ أكتبه مقال العين بدمعي، وأسطر بعده حكاياتي الحزينات. واقرأ صفحة الكتاب الأخيرة من تاريخ مجيد، مزدهية بحضوره البهـي ومنتشية بفعله الجزل، ولكنها مكبلة بغيابه الأسير. كأن الكلام فيها يرفض الكلام، وكأن بنيانه بالوعي أحلام، تكون ذكراه في راسيات الواقع أوهام.
فرحم الله نفسا ما عرفت إلا الرجولة والطيبة، وما فاضت إلا بركة وخيرا، ولم تركع يوما لغير الله. وسيدوم والدي في نفسي؛ وطنا لم ينهزم، وجيشا لم ينكسر.
يا خيلاء العمر يا حسن الكلام
يا نسيم الفجر يا ضحى الأنام
يا عون السنين يا قمر الظلام
يا وجه الصبح يا نور الغرام
عام، غاب طيفك وما غاب الهيام
شهور تمضي، والزمان بعدك أحلام
تلهجك القلوب والبيت ينقصه التمام
ويبكيك العمر جرحا مغزورا بالآلام
ندعو الله لك الرحمة ولنا حسن الختام
ويبقى ذكرك كل حين دعوات وسلام.
الدستور