المتابع للعلاقات الأردنية الروسية، والأردنية الأوكرانية، سيرى بأن جذروها عريقة في عمق القرن الماضي، وسط الزمن المعاصر, و هي مختلفة و متباينة بطبيعة الحال من زاوية رسمها البياني المتصاعد, وهو الذي تعقد حاليا بعد العملية العسكرية الروسية الاضطرارية التي أمر بها رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين بعد التشاور مع كبار المسؤولين لديه , و بعد طلب إقليمي (الدونباس ولوغانسك) في الشرق الأوكراني من موسكو الاعتراف بهما في إطار الحكم الذاتي و ضمن سياج الدولة الأوكرانية, و هو الذي حصل فعلا, وجاءت العملية العسكرية مرتكزة على اتفاقية الصداقة والتعاون ومنها العسكري الدفاعي بين الإقليمين( الدونباس و لوغانسك) و روسيا, و بالاستناد إلى المادة 517 من مواد الأمم المتحدة, و بعدما طفح كيل تحرشات ( كييف ) بشرق أوكرانيا عبر جيشها و المليشيات القومية المتطرفة منذ عام 2014 وهي المحسوبة على التيار البنديري المتطرف أيضا، و القادمة جذوره من أتون الجناح النازي الهتلري في الحرب العالمية الثانية 1939 1941 , و وضع سكانه في حالة دائمة في الملاجئ , و ذهب إلى التشرد وسط العمق الروسي قبل العملية العسكرية الروسية الخاصة , بينما توجه سكان العاصمة ( كييف ) إلى محطات (الميترو) , و القصف للشرق لازال مستمرا .
وكل ذلك جرى و يجري بسبب رفض أوكرانيا للحوار و لاتفاقية ( مينسك ) الضابطة للسيادة الأوكرانية، و للأمن الأوكراني ، و التيار البنديري بالمناسبة الذي تسلل إلى وسط النخبة الحاكمة في غرب أوكرانيا , و امتهن العداء و نكران الجميل لروسيا و لكامل المنظومة السوفيتية السابقة ما عدا ما تشابه معها في التطرف مثل( جورجيا و لاتفيا ), و تعمق الخلاف الأوكراني – الروسي و بالعكس تحديدا بعد انقلاب ( كييف ) الدموي عام 2014 و قلب الطاولة السياسية هناك.
وتحول تاريخ الانقلاب إلى ما يمكن تسميته ( بقبل و بعد ) , فتم أوكرانيًّا التخلص من الخط السياسي الموالي لموسكو بالتعاون مع أمريكا و الغرب بعدما تخلصوا من الرئيس الأوكراني فيكتور يونوكوفيج , و ذهبت أوكرانيا بعدها للتجديف صوب أوروبا و الاتحاد الأوروبي، و أكثر من ذلك تجاه محاولة الانضمام إلى حلف ( الناتو ) العسكري بقيادة أمريكا , و هو توجه خطير و غير مقبول , و الشروع بصناعة قنبلة نووية أوكرانية، لا تسمح موسكو بظهورها على مقربة منها , و هو الأكثر خطورة , وتهدف من خلاله لتهديد سيادة روسيا بالكامل , و التركيز على علاقة سياسية و عسكرية و اقتصادية مع أمريكا بالذات ترتكز على ضرورة توجيه عقوبات لروسيا و مساعدات اقتصادية و عسكرية لأوكرانيا , فمن يمثل محور الشر في العالم ؟ , و أمريكا التي لا تتحدث الإنجليزية ( لغة الاستعمار) باللهجة الأمريكية فقط ,و إنما تجيد مع الغرب تحدث لغة الحرب الباردة و سباق التسلح , و هي اللغة التي تتفوق عندهم على الموضوع الأوكراني الملتهب و الساخن برمته .
و خسرت أوكرانيا إقليم ( القرم ) و إلى الأبد , و ها هي تخسر إقليمي ( الدونباس و لوغانسك ) أيضا , و تفشل في بناء علاقات تاريخية متطورة مع روسيا الاتحادية جارة التاريخ , و الأمر ينسحب على المنظومة السوفيتية السابقة و خدش العلاقات الأوكرانية معها , و كلنا نعرف بأن السياسة حكمة و توازن و بعد نظر, و لا مكان فيها للكراهية و تقديم مصالح الغير على مصالح الجيران القومية . و السيادة الأوكرانية حق وواجب , و سيادة دول الجوار حق كذلك ,فمتى تتحرك صناديق الاقتراع في ( كييف ) يا ترى ؟.
ولقد أصبح من غير المقبول رصد تحرشات حلف ( الناتو ) على مقربة من حدود روسيا البرية و البحرية في زمن لا تمارس فيه روسيا التحرش ذاته مع الغرب الامريكي مجتمعا . ومع الجلوس على طاولة الحوار بين روسيا و أوكرانيا ) في مدينة (جومل) بالقرب من عاصمة بيلاروسيا ( مينسك) , و إعلان الرئيس بوتين جاهزية بلاده النووية ردا على تصريح للرئيس الأمريكي بايدن، قال فيه: ( إما العقوبات أو الخيار النووي ) , أعود بكم هنا إلى ملف العلاقات الأردنية الروسية و الأوكرانية لأهميته في الوقت المعاصر, و إليكم ما أقول :
إن علاقة المملكة الأردنية الهاشمية بروسيا الاتحادية علاقة تاريخية , و يرتبط عمقها في ستينيات القرن الماضي منذ زمن مليكنا الراحل العظيم الحسين بن طلال ـ طيب الله ثراه ـ و الزعيم السوفيتي نيكيتا خرتشوف , و تحديدا بتاريخ 21 8 1963، ووسط سعير الحرب الباردة و سباق التسلح , ولقد شكل موقع الأردن الجيوسياسي الهام في صدارة العالم العربي حلقة وصل بين الغرب الأمريكي و حلف ( الناتو )، و قطبه الواحد و بين الشرق بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق , و تحديدا بقيادة روسيا السوفيتية , و لقد عاصر الحسين الراحل مجموعة من زعماء السوفييت منهم ( خرتشوف , و بريجنيف , و اندروبوف ,و تشيرنينكو , و غورباتشوف . و غيرهم من زعماء روسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد عام 1991 من بينهم ( يلتسين ) , و هو الرئيس الأول لروسيا الذي شارك هنا في عمان في جنازة العصر للحسين الراحل إلى جانب زعماء العالم , و لو بقي مليكنا الحسين الباني حيا لمرحلة الخمسين عاما من الحكم بدلا من 46 عاما التي قضاها في خدمة الأردن و العرب , لتحول نظامنا السياسي إلى إمبراطورية , و لأصبح الحسين إمبراطورا وسط ملوك و رؤساء العرب و العالم , لكنه قضاء الله سبحانه و تعالى .
و الحسين الراحل الذي زار روسيا السوفيتية غير مرة , و زرع في حديقة (ديندراري ) في مدينة سوتشي شجرة الحياة , و تم تكريمه من قبل الرئيس الشيشاني رمضان أحمد قديروف بفتح حديقة في العاصمة ( غروزني ) تحمل اسمه , قابلها الأردن في عهد جلالة الملك عبد الله الثاني " حفظه الله " بتسمية حديقة في عمان تحمل اسم الشهيد أحمد قاديروف .
و الحسين الراحل فاتح العلاقات الأردنية - السوفيتية إلى جانب نيكيتا خرتشوف يستحقان تسمية شارعا باسمهما، هناك في موسكو و هنا في عمان .
وجلالة الملك عبد الله الثاني رفع من مستوى الرسم البياني البنائي مع موسكو و أصبح يزورها بشكل متكرر منذ عام 2001 , و تواصل معها هاتفيا في ظرف كورونا عام 2019 , وعلاقات شخصية متينة بين الملك عبد الله الثاني والرئيس بوتين، ووصل حجم التبادل التجاري بين بلدينا إلى نصف مليار دولار عام 2021 , و قدم الأردن بقيادة جلالة الملك قطعة من الأرض للجانب الروسي، بنوا عليها كنيسة في منطقة المغطس حيث تعمد السيد المسيح عليه الصلاة و السلام باعتراف ( الفاتيكان ) , و أصبح الأردن مقصدا للحج المسيحي الروسي و العالمي , والذي أتمنى له أن يزدهر , و مشروع نووي سلمي مشترك وصلت تكلفته لحوالي ( 180 ) مليون دينار توقف مؤقتا لدراسة جدواه ,و منح دراسية مجانية سنوية , و تمثيل دبلوماسي على مستوى سفارة , وتعاون عسكري , و في مجال الصناعات المختلفة , وفي مجال الزراعة.
وعون روسي كبير للمنطقة العربية في مجال محاربة عصابات ( داعش ) الإرهابية في سوريا منذ عام 2015 ,و مساهمة روسية جادة في تفكيك السلاح الكيميائي التابع للجيش العربي السوري عام 2013م , وفي بناء مناطق لخفض التصعيد جنوب سوريا و في شمالها بهدف إعادة اللاجئ السوري طوعا لوطنه، و للتخفيف على دول الجوار ,و تساعد الأردن في إبعاد خطر ميليشات إيران و حزب الله عن الحدود الأردنية الشمالية, و تساهم في دعم اللاجئ السوري إنسانيا و طبيا . و خطوات متقدمة لروسيا على صعيد القضية الفلسطينية عبر رفضها لصفقة القرن , ووقوفها إلى جانب حل الدولتين، و بناء دولة فلسطين كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية , و مع تجميد المستوطنات ,و دراسة حق العودة و التعويض , و وقفت ضد ضم إسرائيل للغور الفلسطيني و شمال البحر الميت .
وبين الأردن و أوكرانيا بنيت العلاقات الدبلوماسية عام 1992 في عهد مليكنا الراحل الحسين، و الرئيس الأوكراني ليونيد كرافتشوك , و تم تحويل القنصلية إلى سفارة بعمان , بينما لم يتم افتتاح سفارة للأردن في ( كييف ), و تدار دبلوماسيا عبر سفارتنا في تركيا، و سفيرنا هناك إسماعيل الرفاعي.
و لم يتمكن جلالة الملك من زيارة أوكرانيا قبل أزمتها الحالية , لكن الزيارة الملكية قد تكون ممكنة بعد حلول السلام فيها , وحجم التبادل التجاري بين الأردن و أوكرانيا وصل إلى 133 مليون دينار، وطلبة أردنيون يدرسون في أوكرانيا وأردنيون غيرهم يعملون .
وبناء على ما ذكرت أعلاه لفت انتباهي بيان للخارجية الأردنية و شؤون المغتربين بتاريخ 24 شباط 2022 رسم ملامح موقف الأردن من أزمة أوكرانيا بعد العملية الروسية العسكرية الخاصة تبع إجراءاتها الحكيمة لتسهيل عودة طلبتنا و مواطنينا من أوكرانيا عبر إعادة قسم منهم مباشرة إلى عمان , أو من خلال خطة بديلة لترحيلهم إلى دول مجاورة , و في المقابل الأجانب على الأرض الأوكرانية غير مستهدفين في ( الحرب ) الدائرة هناك كما أعرف .
ولقد جاء في البيان الذي تصدره السفير هيثم أبو الفول بأن " موقف الأردن ثابت و راسخ في رفض استخدام القوة أو التهديد في حل النزاعات , و ضرورة الاحتكام للقانون الدولي و ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ حسن الجوار و سيادة الدول و سلامتها الإقليمية.
وأكد على تغليب لغة الحوار , وتكاتف الجهود لوقف التصعيد و حل الأزمة بالطرق السلمية وفق القانون الدولي و بما يضمن الأمن و الاستقرار, و إلى دعوة الأردن لضرورة حماية المدنيين و ضمان سلامتهم , مع التأكيد على سلامة أوكرانيا " . ( انتهى الاقتباس ).
وتعليقي هنا هو بأن البيان المحترم أعلاه سياسي و دبلوماسي رفيع المستوى , و لم يأخذ بالتفاصيل , وهو المطلوب , و بطبيعة الحال يختلف عن لغة الإعلام , و عبارة ( رفض استخدام القوة أو التهديد في حل النزاعات ) انسحبت على الجانبين المتنازعين - روسيا و أوكرانيا , لكن روسيا ـ و الحق يجب أن يقال ـ لم تستخدم القوة إلا على شكل عملية عسكرية اضطرارية لحماية مواطنيها الروس و الناطقين باللغة الروسية في اقليمي ( الدونباس و لوغانسك )، و بطلب منهما كما ذكرت أعلاه، و بعد طلبهما اعتراف موسكو بهما , و بعد اتفاقية تعاون اقتصادي و عسكري دفاعي , و بعد الارتكاز على المادة 517 من ميثاق الأمم المتحدة .
والقوة بالنسبة للجانب الأوكراني و بموضوعية عنت التطاول على شرق أوكرانيا منذ عام 2014 و التسبب في مقتل حوالي 14 ألفا من سكان شرق أوكرانيا.
والآن ـ و بعد اللقاء الروسي ـ الأوكراني في بيلاروسيا , و الذي سيتكرر على حدود بولندا يتعزز الحوار , و سيصل الطرفان إلى سلام أكيد يترقبه الشعبان:
الروسي و الأوكراني و كل العالم، و لا يمكن لأي حرب أن تكون بديلة عن السلام الدائم و التنمية الشاملة.
والغرب الأمريكي مدعو للمشاركة في صنع السلام بدلا من خلق الأزمات و الحروب و العقوبات والتهديدات النووية الضارة بالبشرية جمعاء.
ولن تتمكن أوكرانيا التي نتمنى لها كل الخير كما روسيا أن تحقق سيادتها إلا بعد عودتها إلى رشدها عبر الحوار و الالتحاق بالمسار المتوازن بين الشرق و الغرب , و اتفاقية ( مينسك) ليست بعيدة المنال, و بعد عدم تقديم مصالح الغير على مصالح الجوار القومية , وللحديث بقية.
( ملاحظة لقد بثت و كالة ريا -نوفستي للأنباء ـ بتاريخ 28 شباط الجاري مقترحات الرئيس بوتين لوقف القتال في أوكرانيا، و لتوقيع السلام تضمنت ضرورة اعتراف ( كييف ) بإقليم ( القرم ) , و تطويق و اجتثاث الإيديولوجيا المتطرفة , و ثبات أوكرانيا في الوسط بمعنى عدم انحيازها للغرب ) .