لاشك أن القرن الماضي تأجج بخطابات معاصرة دعت للحرية، والقومية، والوطن العربي، والهوية، والوحدة، في ظل قرن من الإنهزام العربي السياسي، فحاول النشء العربي أن يبني أمجادا معاصرة على ظهر بناء إصطلاحي وجد نفسه فيه، والتي سرعان ما تم إحراقها بنيران صديقة، لأن الإصطلاحات الفكرية الحديثة لم تحمل إيدلوجيات أصيلة كافية لبناء حزبي، أو نمط سلوكي مؤطر يُعتنق كما تعتنق العقيدة الدينية، بل كانت هشة جدا ليسهل إحراقها! .
وربما تعود تلك الهشاشة لعدة أسباب منها أن النهضة السياسية البكر في العالم العربي لا تزال تواجه ولادات عجمية، وغربية الطالع، مما يجعل تطويرها مشوها، و/أو قابلا لتغير التوجه.
القضية اليوم ليست قضية نشوء أحزاب أو حياة سياسية او ظهور قيادات، بقدر ما هي قضية فكر عربي غرز على أطلال الأمجاد القديمة، ونهض على متن نصوص إصلاحية جذابة، وسقط في وحل سلبيات العولمة، سيطر عليه الضغط الخارجي، وجاذبية الفكر الغربي، ليولد فكر عربي بلا قاعدة بنائية راسخة سوى بقاء حقه في التمسك بإستقلاله الثقافي، من عادات وتقاليد قشرية فقط، لأن تأطير الأصالة العربية غير موجود وانحسر في شكل الثياب، واللهجة ... لينحدر الخُلق العام وتنتشر تصرفات هجينة تبدأ بإلقاء النفايات في الطرقات، وتنتهي بتوسع النمط التفكير الجرمي لا سيما الالكتروني فلم تعد ظاهرة التنمر ظاهرة بل حالة عامة!!.
ولا يمكن إنكار حقيقية أن إرتدادات الثقافات المختلفة لإعصار العولمة ، ومعاركه الإقتصادية، والسياسية لا علاقة لهم بعدم إنضباط الفكر العربي والتي بالطبع أثرت على إضمحال وسائل التطور السياسي وأدواته في المنطقة، بل نالت من تأثيرها على الانساق الإجتماعية، ومكونات المجتمع وهذا أشد خطورة على المجتمع العربي، الذي يسهل عليه مثلا تصديق شائعة بالعرض، أكثر من الإفتخار بإنجاز علمي!.
اليوم يواجه الفكر العربي المعاصر أزمة ضخمة من الفرقة، وتغليب العاطفة على العقل، في تأطير غير مقصود لظروف قرن ماضي مر علينا مرا علقما ففاقت مرارته على حلاوته درجات، مدمرة حاسة التذوق الفكر العربي .
ولأن الفكر العربي يواجه أفكارا دخيلة من شاشات لا تتجاوز حجم كف اليد يدخل الفكر العربي بحالة من الفصام الثقافي الحاد، وينبئ بموت مصطلحات العقل العربي السابق ذكرها، ودفن آثار الفضيلة والتي يعنى بها هنا (الأخلاق العامة) وليست مثاليات الأنبياء، مما يبقي على وراثة ثقافية عامة فقط بدون توثيق للأخلاقيات العربية الأصيلة.
فنرى المجد الإلكتروني لصور عارضات أزياء، ونكت ضحلة تفوق المجد للقضية الفلسطينية، أو لمحتوى هادف، فيما يمارس العقل العربي تنمرا جديدا سأكتب فيه مطولا على عقلية المرأة العربية، والتي يستمر إثارة التشكيك حولها بإمكانية خروجها من نمطية السوق والمطبخ ويستمر التشكيك بثقافتها، وقيادتها، ثم يستمر مسلسل التحريض على الكراهية والتطرف، وتجاهل أهمية تأطير الفكر العربي لتشكيل وحدة عربية، ودعم قيادات عربية مؤهلة لمواجهة العالم، وكل هذا يدفع بعدم التركيز على تطوير الفكر العربي المعاصر وتحديث أدواته الاجتماعية لتعود للاصالة الفكرية ذواقها الجيد.
فكيف لقارتين من القومية العربية، أن لا تجدان طريقا للإتحاد وتأطير الأصالة العربية بما يناسب هيئة المستقبل، ولا يضير بالماضي!.
* المقال تابع لمقالنا السابق ( الحقيقة المذهلة للفكر العربي، ورائعة مجتمع الكراهية لسعد جمعة) .