إنها مفارقة لا مثيل لها. فالعراق هو أسوأ مكان في العالم الآن، ولم يحدث في عصرنا أن تحوّل بلد الى مكان مرعب كما هو حال العراق الآن. هناك عدد من الصحف والإذاعات وقنوات التلفزيون تفوق ما هو موجود في العالم العربي مجتمعا إضافة الى عدد هائل من المواقع الإلكترونية التي تعبّر عن كلّ التلاوين السياسية والثقافية والاجتماعية بلا استثناء. وهكذا فالعراق من هذه الناحية هو واحة الديمقراطية، لكنها واحة جهنمية بصورة نهائية، وأكبر إنجاز أن تنجح في النجاة من القتل الذي يهددك يوميا لأي سبب، سواء كانت وجهة نظرك أو انتمائك الطائفي أو سكنك أو مجرد مرورك حيث صادف انتحاري يفجّر سيارة أو دورية تلمّ أناسا بقصد التعذيب والقتل أو عصابة أشرار تخطف وتبتزّ وتقتل أو قذيفة من الأرض أو الجو.
الواقع تفوّق على أفلام الرعب. تخيلوا مشهد أكوام الجثث مقطوعة الرأس على شاطئ دجلة أول من أمس! هل يمكن لقضيّة الديمقراطية أن تحصل على أنموذج أسوأ من الذي صنعه بوش في العراق؟! ومع ذلك يتابع الحديث أول من أمس باللغة نفسها عن تقدم يحصل.
ليس هناك تقدم أبدا، فحكومة المالكي تؤكد فشلها التام وجبهة التوافق السنّية قررت مقاطعة الحكومة وأوشك الصدر على فتح مرحلة جديدة من الحرب الأهلية قبل أن يتراجع عن "الزحف المليوني" على سامرّاء، والحملات الأمنية تخفف مؤقتا هنا أو هناك روتين المفخخات اليومية لكنها تعوّض عنها بقتل عشرات المدنيين في الطريق الى الإرهابيين! لم تعد الصحف تهتمّ بالتفاصيل، فقط أعداد القتلى وطريقة القتل، بالمفخخات أو الإعدامات أو قصف الطائرات، لكن بتصفح مواقع الكترونية تحصل على قصص لأشخاص من لحم ودمّ تقبض النفس وتغمر الروح باليأس.
وما يخيف هو تلك التعليقات أسفل المقالات التي لا تتوقف ابدا أمام هول الجرائم بغض النظر عن هوية الضحايا! فالجرائم باتت مبررة فقط لتسعير الحقد والغضب على طرف أو أطراف أخرى هي وحدها المسؤولة عن كل الشرور وهي التي سيلحقها عقاب الدنيا والآخرة وستهزم شرّ هزيمة. الحساسية العامّة تجاه الناس أخلت مكانها للإنحياز الفئوي الذي لا يرى سوى شرور الآخر وأحقاده.
لا يوجد منتصرون في العراق، وأول المهزومين هي الإدارة الأميركية التي ليس أمامها في الأفق سوى الفرار من الجحيم الذي صنعته بيديها الآثمتين، وهي في أحسن الحالات تبحث فرص البقاء عسكريا في قلاع معزولة والتفرج من هناك على حرب لن ينتصر فيها أحد. وسوف يجد كل طرف دعما أقليميا يديم مشاركته في المحرقة حيث يقتل الجميع الجميع الى أن يصبح وضع حدّ لها بأي طريقة ولو بالفصل الطائفي والعنصري والتقسيم الى أي عدد من الكيانات هو هدف مقبول.
لم أكتب منذ بعض الوقت عن العراق؛ فاليأس سيد الموقف والتعليق السياسي ترف أمام بشاعة الحال!
jamil.nimri@alghad.jo