شكل لي السمك مقطوع الرأس عقدة في حياتي، أدمنت على أكله في صغري وأنا أسائل نفسي عن مصير الرأس، حتى إذا ما كبرت، وجدتني أعوّض عن تلك اللذة المفقودة بالتوجه لرأس السمكة أوّلاً عندما أتناول نوعاً من الأسماك. كنت في بداية الأمر أظنّ أنّ السمك يولد بلا رأس، كان ذلك السمك البوري.
وصلت إلى سنّ الشباب، كانت «العقبة» تشكل لي نقطة جذب، لا شيء يفتنني أكثر من البحر، وشاطئ البحر، وزبد البحر، وسمك البحر، ولون مياهه الزرقاء التي كنت أظن وأنا ما زلت طفلاً أنها زرقاء بالفعل. أذكر أنني سهرت الليل مع صديقي العُماني غازي عبد الله الزدجالي على شرفة بيتي في إربد خلال أيام الدراسة في جامعة اليرموك، كان ذلك في منتصف شهر تشرين الأول عام 1981 وبعد أسبوع تقريباً على مقتل الرئيس المصري أنور السادات، فجأة لمعتْ فكرة في رأس صديقي، أن نركب سيارته ونتوجّه إلى العقبة، لم أكذّب خبراً، قضينا ثلاثة أيام على الشاطئ ونحن نأكل السمك، شعر صديقي بالحنين إلى بحر عُمان، وأخذ يقصُّ علي القصص، كان غازي حكّاءً من نوع فريد، مرة يتحدث عن أمِّه، وعن زوجات أبيه، ومرة عن إعجابه بالسلطان قابوس، وأخرى عن القطط السوداء التي كان يخشاها في أيام الطفولة، لكننا في تلك الليالي لم ننم بل نتسامر على ضفّة البحر حتى مطلع الفجر.
نشأتْ علاقة أخذت تنمو يوماً بعد آخر بيني وبين البحر، لكنّ بحوراً أخرى جلستُ على ضفافها قبل وبعد ذلك، وطدت العلاقة بيني وبينه مهما كان اسمه، إلى درجة أنني لم أعدْ أخشاه، ائتمنتُه على روحي، ووثقت به، ويبدو أنه وثق بي أيضاً. وصلت إلى الكويت بعد تخرّجي، للعمل في مجلة العربي الكويتية، لتنتقل العلاقة بيني وبين البحر إلى مستوى آخر، بدأت أتعرّف على سكّانه ومرجانه، وأعشابه، وطحالبه، ومحاراته، وعلى صيّاد البحر ومهاراته، أتوجه إلى سوق السمك على «سيف» الكويت المجاور للديوان الأميري، لأحضر مزادات بيع الأسماك التي يشرف عليها خبيرٌ هو كبير الدلالين في السوق، يقال له «الدكتور»، وباشرت رحلتي التي ما زالتْ ممتدّةً حتى هذا اليوم، وقد عدت للتوّ من سوق الأسماك في دبي القديمة، لأكتب هذه المقالة.
ترى في الكويت عشرات الأنواع التي من بينها المجوه، والباس، والبياح، واليوافة، والشعم، والحمراء، وغيرها كثير، واحدة تعيش في القيعان الرملية، وأخرى في القيعان العشبية، وثالثة حول الشعب المرجانية والصخور، وترى الأحمر الوردي، والأخضر، والأبيض، وخالية الأسنان، وصاحبة زعنفة شوكية، وترى «الزبيدي»، سيدة أسماك الخليج الفضية اللامعة الملساء، الخالية من القشور، والتي اعتادت أن تسبح في أسراب مع أخواتها في اتجاه القيعان.
وصلت إلى قطر حيث تكثر مراعي «الهامور»، وهناك تعرفت على «البروفيسور»، وهو ما يماثل «دكتور الكويت»، فأسأله عن الأسماك ومراعيها وسلوكها وعاداتها، و»البروفسور» رجل حكاءٌ أيضاً، سألته عن السردين، لماذا يقِلّ سعره عن بقية أنواع الأسماك، قال لسهولة اصطياده، سلِّطْ كشّافات ضوء على الشاطئ بعد أن تنصُب شِباكك، تتوجه أسماك السردين نحو الضوء بكل أنواعها، من المكرونة، إلى الأنشوجة، والشاخورة، والسبارس، والمياس، والموسى وغيرها، اسحب شباكك، واجمع أسماكك دون أن تركب البحر، فيما يتطلب الأمر السفر إلى مراعي أسماك أخرى، كان أمير الكويت الراحل صباح الأحمد خبيراً في مواقعها، وهو من عشّاق «الحَداق» و «القنص»، وبعض الأسماك ذكيٌّ للغاية ويتطلب الأمر فرضَ حالةٍ من السكون حتى تصطادها، ومن أبرزها سمك السبيطي شديد الحذر، فيما من السهل أن تقع سمكة غبيّة في الفخّ، و»الهامور» أكثرها غباءً، سألت: إلى أيِّ درجة غبية، قال: يعني لو وضعت لها حذاءك طعماً، ستأكله. ما أغباها وما أطيب لحمها !
انتقلت إلى الإمارات لأواصلَ رحلة العشق لهذه المخلوقات، وأكتشفَ أنّ البحر أيضاً يحتوي على أسراب تشبه في حركتها طيورَ السنونو في بلادنا، سمك «الجش» يعبر المحيطات في أسراب متراصّة. عشقت البني العراقي من فصيلة «باربُس» الذي يتغذّى على النباتات في أهوار العمارة والناصرية والأهوار الوسطى، عشقت السمك النهريّ العراقيّ عشقي لدجلة والفرات، و»المسموطة» صباحية العيد، والمرق، لا يهمّ كيف تُلفظ المفردة: مُرقَة في بغداد، أو مَرَق في البصرة، فالطعم يتشابه كما يتشابه سمك السَّمان مع الهامور، وعشقت طعم «المطبّق، وأكل السمك المطهوّ مع البامية.
تنقلت كثيراً وتذوّقت كل أسماك الشعوب في شرق آسيا، وفي أوروبا، وفي الولايات المتحدة الأميركية، وكلّها لذيذة شهية، ولكن ما سرّ ولعي بسمك «الدنيس»، و»البربوني»، و»اللقس»، و»سلطان إبراهيم» على ضفاف الحمامات في تونس، وعلى ضفاف طنجة في الشمال المغربي، أو على شاطئ من شواطئ اليونان المُطِلّة على البحر المتوسط، أتراه أشهى من كل أسماك العالم، أم لأني متوسطيّ ما زال يحلم ببحر يافا، ومرفأ حيفا، وأسوار عكا !
(الدستور)