سألتْها الصّغيرةُ بتأثّر: «لماذا تبكين يا تيتا وأنتِ تستمعين إلى الرّاديو، ماذا حدث؟ « فأجابت وهي تمسحُ الدّمعةَ التي انهمرت برفقٍ على خدّها العتيق: « لا شيء غاليتي، إنّه المقطعُ من الأغنية التي يقولُ فيها المطرب:
«عيونك سود وأقول مش سود عشان النّاس تتوه عنّك…
وأصونك من عزول وحسود، وأغير حتى عليك منَّك!»
ولمّا ارتسمَ الذّهولُ على ملامح الطّفلة، أضافت: « الكلماتُ الجميلة تبكيني يا حبيبتي، تماماً كما تفعلُ الكلماتُ البشعة!»
وحدث مرّةً أن شاهدَها حفيدُها تقفُ عند النّافذة، ثمَّ تدعوه حتى يتأمّلَ الغيومَ… ويرى ما تراه هي؛ أرنبٌ صغيرٌ هنا، وفراشةٌ قربه، وغزالٌ يركض هناك… لكنّه لم يرَ شيئاً، ثمَّ أدهشه للغاية أنّها بدأت بالتّصفيق، فجأةً، وإطلاقِ الزّغاريد وهي تصيح:» يا سلام…انظر، انظر يا حبيبي، ظهرَ قوسُ قزح لمّا أشرقت الشّمسُ بعد توقّف الشّتاء… « ويذكرُ الصّغير أنّها بقيت مبتهجةً طوال ذلك النّهار لهذا السّبب!
حفيدُها هذا، يذكرُ أيضاً أنّه رافقها ذات مرّة إلى متجرٍ قريب ليساعدَها في التّسوّق، فلمّا انتهت، دعت أحدَ الفتية في المكان لحمل الأغراض إلى السّيّارة بدلاً من تكليفه بها، ولمّا استغربَ وسألها أجابت: « أنا أستطيعُ حملَها بنفسي يا نور عيوني، لكن أختلقُ سبباً لإعطاء هذا الفتى المهذّبِ بعضَ النّقودِ كلَّ مرّة!»
وبالنّسبة للحفيدة، فقد حدث أن رافقتها في مشوارٍ آخرَ ذات صباحٍ خريفي، لتفاجأ بها تنحني كي تلتقطَ من على الرّصيف عدداً من أوراق الشجر الملوّنة، فتقلّبَها بين يديها بانبهار وهي تقول:
«سأصنعُ لكِ منها لوحةً حلوة مثلكِ يا أميرتي» ثمَ لتنفّذَ ما وعدت به حال عودتهما، وتخرجُ بعمل فنّي باهر أدهشَ الطّفلةَ للغاية…
أمّا الحفيد، فقد شعرَ بالحرَج الحقيقي ذات مرّة حين شاهد الجدّة ترسلُ قبلاتِها في الهواء وهي واقفةٌ على الرّصيف المقابل لبيتها، سألها باضطراب فأجابت: « تعال بسرعة وانظر يا حياتي، كنتُ أحسبُ أنَّ هذه الشّجرةَ ماتت… لكن ها هي تُطلقُ براعمَها أخيراً!»
وكان يحدثُ أن يطلبَ منها هو وأختُه طهوَ صنفٍ معيّن، ثم يلمحانها تعدُّ الطّعامَ وهي تتمايلُ على أنغام أغنيةٍ شبابيّةٍ حديثة!
في يومٍ ما، قرّرا البوحَ لأبيهما عن فرحتهما ودهشتهما بما يلاحظانه على الجدّة في كلِّ زيارة، فجلسا معه، ولم يكد الصّغيرُ يفتحُ الموضوع، حتى انبرى الأبُ قائلاً: « اسمعاني جيّداً، الشّيخوخةُ مرحلةٌ مؤلمة، وجدّتكم عاشت حياةً صعبة، وتحمّلت الكثير، أريدكما أن تستمرّا في زيارتِها ومساعدتها، أعلم أنّها حزينةٌ ومكتئبة، ولولا ساعاتُ عملي التي تستنزفُ أيّامَ العطل أيضاً، لكنتُ قربها وحولَها ليلَ نهار… إيّاكما أن تشكوا أو تتذمّرا منها، أو من مراعاتها، والعناية بها!»
وقام إلى بعض شؤونه، ليتبادلَ الصّغيران ابتسامةً ذات مغزى!
(الغد)