نشأنا، تعليمياً وتربوياً، على مقولة إن «خير الكلام ما قل ودلّ"؛ «تعليمياً» في المدرسة والجامعة، و"تربوياً» في المنزل والمدرسة والمجتمع.
نعم، لا هوادة في هذا الأمر، وقد كان دور الأسرة والمدرسة والمجتمع يتسم بالتكاملية؛ فقد كانت المؤسسات التربوية الثلاث هذه تصرّ على آداب التحدث، وتمارس دورها بصرامة، جاعلة نصب أعينها أن يكون الفرد دقيقاً في كلامه، صادقاً فيما يقول، ويوصل الرسالة بأقصر الطرق وبأسلوب يراعي أصول اللياقة واللباقة والأدب.
في المدرسة كان الشعار «أجب على قدر السؤال» وكان التركيز في الجامعة على «فن الكتابة والتعبير»، وكلمة «فن» هي بيت القصيد، لأن للمحادثة وللكتابة أصولاً وقواعد لا بد من مراعاتها، وكان على الطالب أن يأخذ مادة أو مادتين أو أكثر لفصل أو فصلين يتعلم فيها أصول وفنون وقواعد الكتابة والتحدث.
ثم جاء بعد ذلك مشروع مهارات التواصل، والذي يركز على المهارات الفرعية العديدة الواجب على المتعلم اتقانها ليكون متحدثاً بارعاً وكاتباً يراعي الفنون والآداب والأصول.
في مواد الكتابة باللغة الإنجليزية، والتي درَستها طالباً ودرّستها أستاذاً جامعياً، كان التركيز على ثلاث قواعد أساسية: الدقة والوضوح والاقتصاد.
وكان الهدف من كل ما ذكر أن تنعكس هذه الآداب والقواعد والأصول والفنون ليس على أداء الطالب في مواد المدرسة والجامعة التي يدرسها وعلى الواجبات الكتابية والتّحدّثية المرتبطة بها، بل على أدائه الكتابي والتّحدّثي في كل المواقف الحياتية، الرسمية وغير الرسمية.
مؤخراً مع الأسف، ومع فتح وسائل التعبير للفرد على مصراعيها دون قيود أو شروط، أصبح معظم الناس يضربون عرض الحائط بالفنون والأصول، ويتحدثون أو يكتبون ما هبّ ودبّ، مم لا قل ولا دلّ، مدوّنين كل ما يجول بخاطرهم سليقياً وبعفوية ساذجة أو خبيثة ودون مراعاة لأي آداب، ودون فلترة للتعبير أو إخضاعه لأي عمليات عقلية أو حتى عاطفية ذكية، فضاع نصف «لسان الفتى» الذي حدّثنا عنه شاعرنا الكبير، وضاع «نصف فؤاده»، ولم يعد يُعجبك صامتاً أو متحدثاً؛ لا بل في العديد من الحالات أصبح البعض يستخدم لسانه كالسيف محدثاً «جراحات» لا «تلتام?، كما قال شاعرنا الكبير الآخر.
الأمثلة على هذه الظاهرة السلبية وذات الأبعاد المشوشة والمؤذية والمخرّبة كثيرة؛ فنجدها تتجسد ليس في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بل في العديد من – وبالطبع ليس في كل – وسائل التواصل الرسمية، العامة والخاصة، والتي يفتقر العديد منها إلى محترفي فن الكتابة والتعبير، وفن تحرير الخبر والمعلومة.
وإذا أردت مثالاً حياً فانظر أو استمع إلى بعض المعلقين على المباريات الرياضية، وبعض البرامج «الحوارية»، وبعض المتحدثين في الفضاء العام: حديث كالسيل الجارف، «مثل البرق يتبعه الرعد»؛ صراخ، إرسال دون استقبال، وجعجعة بلا طحن.
وأطفالنا يشاهدون، فيُقّلدون ويتأذّون.
حتى لو كانت وسيلة الكلام متاحة دون قيد أو شرط وبالمجان، لا بد لنا من الحرص على أن نؤدي الغرض المطلوب بكفاءة ولياقة وفاعلية.
ولن يتأتى ذلك دون مراعاة الأصول المتمثلة في: ما قلّ، وما دلّ، وما سرّ.
(الراي)