من لم يلاحظ ما وصلت إليه أوضاع الأردن بمختلف مناحيها منذ العام (2011) ولغاية الآن هو أعمى بصر وبصيرة، فمنذ أن نجح النظام الأردني في استباق مخاوف ما يُسمّى بالربيع العربي بخطوات عديدة أهمها الإصلاحات الدستورية وتلافي ما حلّ بالمنطقة من كوارث هذا الربيع إلاّ أن الحكومات المتعاقبة بدلاً من إظهار نجاحات الوطن، وعكسها على المنظومة السياسية والاقتصادية والمجتمعية بحيث يلمس المواطن الأردني الآثار الإيجابية لهذا النجاح، فإن أوضاع المجتمع الأردني وبعهد الحكومات الثلاثة الماضية شهدت تراجعات في كل مناحي الحياة، وانعكست العقليّة الفارغة سلباً على المواطن الأردني ومؤسسات الدولة، فالمناصب بمختلف تدرجاتها تُوزّع في معظمها بمحسوبية وشلليّة وغيرها من الاعتبارات الشخصية فكانت مخرجات الحكومة وليدة ونتاج مسؤولين لم يهمهم سوى الاستعراض على الشاشات، والتمثيل على المواطن ووضع برامج باهتة لاتسمن ولا تغني من جوع.

ولعلّ من أظهر السلبيات التي كانت سمةٌ للأوضاع السابقة:

1- تراجع إن لم يكن انقطاع الثقة ما بين المواطن والحكومة، بل أن كلام الوزراء والمسؤولين كان يعتبره المواطن مثاراً للتسلية والدعابة، ومدعاة للفكاهة والتندّر، وعلى كل مستويات منصات التواصل المجتمعي، بل أن المواطن وللأسف أقلع عن رؤية أو سماع الإعلام الرسمي لعدم ثقته به.

2- تراجع الأداء الحكومي وانعكاسه على القطاعات المختلفة كقطاع الصحة والتعليم وقطاعات أُخرى عديدة، وأصبحت معظم هذه القطاعات بحاجة لإعادة النظر الجذري في مكوّناتها.

3- تراجع الثقة بمهنيّة المواطن الأردني وقيمته إذ كان المواطن الأردنيُّ عنواناً للكفاءة وحسن الأداء والمعرفة، وعلى مستوى المنطقة كلّها، سواء كان طبيباً أو معلّماً أو مهندساً .... إلخ، وكذا الأمر بالنسبة لمؤسساتنا التي تراجعت سمعتها إلى حدّ كبير.

4- صدور القرارات الحكومية بنوازع يُشتمُّ منها المنفعة الشخصية والشللية والمحسوبيّة ولذلك انزلق البعض من المسؤولين في شبهات فساد، وأصبح الآخرون مرعوبين شعارهم في السكوت السلامة.

استشعر جلالة الملك النقائص والعيوب والتراجع في الأداء الحكومي، وأحسّ بفقدان ثقة المواطن بتلك الحكومات مما حدا بجلالته لتنبيه الحكومة لكل مَواطِنَ التراجع، والتي أوضحها جلالته بكل صراحة ووضوح، بعيداً عن التنميق والمجاملة الزائفة. فلم تأتِ الرسالة الملكية من فراغ بل كانت ضرورة سلّط منها جلالته الضوء على معظم مواطن الخلل، فجاءت الرسالة ببرنامج عمل واضح لهذه الحكومة وما بعدها من الحكومات، وهدفت إلى إعادة برمجة المجتمع الأردني حكومة ومجتمعاً .

وانطلاقاً مما جاء بالرسالة الملكيّة فسيتم تشكيل لجنة بمعرفة الديوان الملكي، وربّما ينبثق عنها لجان فرعيّة، وستتصدى لكل ما يتوجب عمله وفقاً لما جاء بالرسالة الملكية. وهنا لابدّ من الإشارة إلى بعض المواضع الهامّة التي تضمنتها الرسالة التي لا يجب أن تكون حصراً بل يجب تدارك وإصلاح ومعالجة كافة المناح المجتمعية.

أولاً: إعادة برمجة المجتمع الأردني لنفسه، ثقافة، وعادات، ومصداقية، والعمل على ايجاد منهج ايجابيّ ينعكس فائدة على المجتمع والمواطن الأردني.

ثانياً: ضرورة تعاضد جهود القطاعين العام والخاص للمساهمة في النهوض من التعثّر الحاصل والتراجع المستحكم، والعمل سوية بتناغم ورشاقة.

ثالثاً: اسناد المناصب والوظائف العامّة للمسؤولين القادرين، الذين يضعون نصب أعينهم الصالح العام، والعمل بكل نزاهة واحترافية، وبمصداقية بعيدة عن المصلحة الشخصية والشلليّة وبحيث يكون المسؤول قادراً على اتخاذ القرار الملائم في الوقت المناسب دون خوف أو مجاملة. فالمسؤول الذي لا يتخذ القرار المناسب في الوقت الملائم، هو فاسد ولكن بطريقة الفساد السلبي.

رابعاً: وأمرٌ مهمٌّ جداً أشار إليه جلالة الملك وهو إعادة بناء الثقة بردم الهوّة ورأب الصدع بين المواطن والحكومة بمؤسساتها وقراراتها المختلفة، بل أنني أرى أن استعادة هذه الثقة هو انتشال للحكومة من مستنقع الشكوك والتندّر، هذه الثقة التي إن تحققت اعادت للمواطن روح المواطنة والانتماء للوطن.

خامساً: تطوير القطاعات المختلفة وأهمها القطاع الصحيّ وقطاع التعليم وقطاع الزراعة ...إلخ، فهذه القطاعات كانت يوماً ما مضرباً للمثل على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وتحظى باحترام وتقدير المواطن الأردني والعربيّ والأجنبي، وهذا أمرٌ لن يتحقق إلّا بتغيير العقليّة السائدة سواء من حيث آلية العمل أم من حيث الأشخاص الذين سيُكلّفون بترميم هذه القطاعات.

سادساً: ضرورة إيلاء الحكومات الاهتمام الكبير بالكفاءات والمهارات، والاعتناء بقدرات الإنسان الأردني وتشجيعه، وإشعاره بالثقة الكاملة في النفس، وبحيث يشعر الكفؤ أن مكانه في هذا الوطن، وأنه سيلقى ما يستحقه من الاهتمام، وبحيث يكون الإبداع والتميّز والابتكار نهجاً وهدفاً للحكومة.

سابعاً : رفع سويّة الأداء الحكومي ومكافحة بل والقضاء على الترهل والروتين في تقديم الخدمات، فلا استثمار ولا إنجاز ولا ثقة مع الترهّل والبيروقراطية القاتلة، فالعالم يسير ولن يكون للمتقاعس والمتخلف والمُرجف مكاناً فيه بل سيكون تابعاً ومُقلِّداً ومتلقيّاً.
ثامناً: ضرورة التصدّي لآفة الفقر والبطالة بين الشباب، فهذه معضلة مستشرية فلابد من إيجاد الحلول الناجحة لها، وبحيث تترافق مع المساواة بين المواطنين في كافة الاعتبارات.

تاسعاً: وضع الخطط القصيرة والمتوسطة وطويلة الأمد لمختلف القطاعات، وبحيث تكون هذه الخطط مقرونة ببرامج عابرة للحكومات، ومحكومة بأوقات محدّدة، ووضع مقاييس للإنجاز، والمحاسبة على التقصير والتأخير، وبحيث يكون لذوي المؤهلات والكفاءات والقدرات الدور الرئيس في تنفيذ هذه البرامج والخطط، وبدون انتقائية أو محسوبية أو شلليّة أو وساطة. ومحكومة برقابة صارمة.

عاشراً : نبذ المحسوبية والشلليّة وتبادل المصالح في التعيين في المناصب والوظائف العامة، وأرى أنه إذا لم يتم التخلّص من هذه الآفة المستحكِمة على عقول المسؤولين فإن كل ما ذكرنا سابقاً سيبقى حبراً على ورق، تماماً كالبرامج التي كانت تضعها الحكومات السابقة.
وأنتهي إلى أن ما كشفتُ عنه لم يكن مبعثه سوداوية الرؤيا أو الانتقاص من الإنجازات وإنما هو تصدِّ لتقصير وبيان لأوجه فشل وصلنا إليه، ولا يجوز أن نُثني على أن من أُوكل إليه عمل وأنجز بعضه وقصّر في الباقي.

وعلى كلّ فإن وضع البرامج المحدّدة والتواريخ المسبقة، وبمتابعة من سيد البلاد شخصياً يشكّل مدعاة للتفاؤل والتغيير نحو الأفضل بإذن الله. وأنّ على الحكومات أن تودع الاستعراض والتنظير وتستعدّ للعمل والمحاسبة.

حفظ الله الأردن، وطناً وشعباً وقيادةً