الجغرافيا أيضاً مستبدة، فهنالك دول قلما يُشعر بها، لكنها في لحظة تتحول إلى بؤرة الأحداث.
«أوكرانيا» واحدة من هذه الدول، فجغرافيتها وضعتها على حدود جرف التوتر العالمي، فهناك ثمة حضارة قُدر لها أن تقود التطور العالمي، أعني أوروبا، وتشكل تحالف الغرب الذي لم يهتز منذ نشأ، وهناك أمة على تخومها ترفض إلا أن تكون عظيمة، ولكل من هذين حلفه وطموحاته. فهي إذا كانت في الصف الروسي تجعلها من الدول العالمية العظمى، لكن انسلاخها عن هيمنتها يجعلها مجرد دولة قوية، في الحالة الأولى تشكل روسيا خطراً على الغرب، وفي الحالة الثانية مجرد إزعاج له.
لذلك، فالصراع على هذا البلد محتدم وهو قادر على أن يجر العالم إلى حرب أوسع من المكان الذي تحدث فيه، فماذا تريد روسيا؟ وماذا يريد الغرب؟ طبعاً ممثلاً بالولايات المتحدة بعد التصعيد الأخير.
بالنسبة لروسيا؛ فيبدو أن الخروج المذل للولايات المتحدة وحلف الناتو من أفغانستان كان بمثابة إعلان عن بدء تراجع أو نهاية النفوذ الأميركي، خصوصا وأن الولايات المتحدة بادرت في السنوات الأخيرة إلى إنهاء حروبها الجانبية للتركيز على الخطر الرئيسي بالنسبة لها، وهو الصين.
هذا الواقع أغرى روسيا للتحرك في محاولة لتعميق التراجع الأميركي والانتقام من الإذلال الذي مارسه الغرب على روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
هذا التصور الروسي الجديد جعلنا نجد إعادة للتموضع الروسي في أكثر من مكان في سوريا وأفريقيا، والآن في شرق أوروبا، وهي الخطوة التي حلمت بأنها ستمثل تتويجاً لطموحها بالعودة إلى مسرح القطبية العالمي، لذلك جاءت خطوة نشر القوات على حدود أوكرانيا في إطار ممارسة القوة الصلبة لاستثمار اللحظة على أمل تحقيق مطالبها، وهي تتمثل في منع قبول أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا أعضاء في حلف الناتو.
أيضاً تصر موسكو على انسحاب الحلف من بلدان المواجهة مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا، أيضاً أن تقبل كييف بالحكم الذاتي في منطقة دونباس والتخلي عن المطالب بشبه جزيرة القرم، وكذلك الحد من نشر الصواريخ الأميركية متوسطة المدى في شرق أوروبا، هذه المطالب تراها روسيا عادلة وتصر على أن القوات المحتشدة ليست لشن أي هجوم.
أما الولايات المتحدة، فتريد أن ترسل رسالة واحدة؛ أنها ما زالت الأقوى، وأنها لا تتخلى عن حلفائها، وأن روسيا تريد أن تفرض إرادتها بالقوة، وهذا بالنسبة إليها مرفوض، وحجتها أن هذه القوات ما وجدت في هذا الموقع إلا لتشن الحرب وتغزو أوكرانيا.
وهي تتبنى رأياً يقول إن تحقيق بعض المطالب لموسكو سيقود إلى صيغة مشابهة لما حصل في اتفاق ميونيخ عام ١٩٣٨ وهي التسوية التي سمحت لألمانيا النازية بضم أجزاء من تشيكوسلوفاكيا، ولكن تلك التسوية لم توقف هتلر عن غزو أوروبا..
لذلك وجدنا الولايات المتحدة تقول لا عريضة لروسيا على كل مطالبها، بل وبدأت بنشر قواتها في الدول المواجهة لروسيا وكأنها تُرسل رسالة قوية أننا سنحارب عن حلفائنا، بل وأمعنت في إغراق روسيا إذا بدأت تحدد المواعيد لشن الهجوم، كل ذلك لرفع التكلفة السياسية على الرئيس الروسي في حال الانسحاب.
لذلك وجدنا أن موسكو أصبحت محجاً للقادة الأوروبيين كرسل للسلام مسموح لهم أن يقدموا كل أشكال النصائح، لكن شيئا واحدا لن يقدموه؛ وهو أي تنازل يشعر بوتين أنه انتصر، لذلك يجد العالم نفسه في مواجهة عسيرة بين طرف طامح للعودة إلى المسرح من باب مصالحه الاستراتيجية، وطرف يتشبث بالقمة بكل ما أوتي من قوة. والتاريخ يشير الى أن الصراع بين الطامح والمتشبث غالباً ما يقود إلى الحرب.
لذلك؛ فكل الأحاديث عن الدبلوماسية تنسفها التحركات العسكرية على الأرض، التي لا تشي إلا بالحرب التي يصم قرع طبولها الآذان.
لكن السؤال الحائر: هل ستنقذ عقلانية الحضارة الانسانية وما وصلت إليه من تطور العالم من الانزلاق نحو الدمار؟ لا احد يعلم، فلا يوجد حرب يُخطط لها، لكن أوكرانيا ستبقى ضحية استبداد الجغرافيا التي وضعتها هناك، وما زال العالم يحبس أنفاسه خوفاً وهلعاً وأملاً في نفس الوقت.
الرأي