وادي عربة مسار (مَعَصّق التيس)
عبدالرحيم العرجان
14-02-2022 10:34 AM
مسار لا يعرف أن يرسمه إلا ابن المكان الذي يعلم كل خباياه وأدق تفاصيله، فالغريب وإن كان متمرس قد يضل طريقه أول مرة أو يقع بفخ سلامة الطريق وتشابه المناطق وخداع البصر ما بين الذهاب والعودة في غياب شبكة الاتصال وفقدان الأثر بحكم الطبيعة.
بدأ مسارنا باستقبال وحفاوة دليلنا محمد السعيدين – أبوعاصم - ومن معه بوادي غرندل الوادي الذي بايع أهله شريف مكة الحسين بن علي بثورته ضد نير الظلم التركي، فكان فيه مقر قيادة الفرقة العسكرية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين الذي لعب دور كبير بمهاجمة دلاغة والقويرة وأبو اللسان وتأمين طريق العقبة بمعاونة أبناء المنطقة العارفين بالدروب والمسالك ومكامن السيطرة والقوة.
أخذنا جولتنا بين النخل القديم، وتزودنا بماء عين غرندل ذات الاسم المشابه ببلدة غرندل الأدومية، بنواحي الطفيلة ووادي غرندل بسيناء، ومنها اتجهنا بواسطة سيارات الدفع الرباعية لوادي أموالح بعد قطع على متنها مسافة أربع عشرة كيلومتر بين كثبان وغراميل رملية التي أتت بها السيول من الجبال الشرقية الفاصلة بيننا وبين الحميمة حيث كانت غرندل وما حولها بحيرة رسوبية بالعصر البلايستوسين الجيولوجيا.
أودية وشعاب كثيرة سوف يتخللها مسارنا بتنوع طبيعي ندر من سار عليها ودليلنا يحفظها عن ظهر قلب، حيث يصعب ترسيمها إلكترونياً إلا بالمسير والتثبيت الفعلي للنقاط على أرض الواقع، بين قباب صخرية وجلاميد قد تشكلت بحكم الطبيعة فكلاً منا يراها بمنظوره وخياله الذي يتطلب اجتيازه حنكة وحذر مع استخدام عصي الارتكاز خشية انزلاقها أو تهشمها تحت الأقدام على حين غره، ومنها ما يترائى كالتيجان فوق رؤوس الجبال والمعابر بكل الألوان، فالحجر الرملي من الأصفر الكبريتي وما بينه من طبقات طينية هشة تسمع طقطقة تهشمها تحت قدميك، ومارل أخضر ورمادي وكتل بيضاء جبسية بين طيات الجبال الكرميدية الغنية بخام الحديد الهميتايت وبعالم تأملٍ فريد، بعيداً عن ضوضاء المدينة وشبكات الاتصال.
ومنه وعبر مساراته الضيقة صعدنا لكتف الجبل المطل عليه ذو المشهد المهيب وكيف اختلف من بين سيق ضيق إلى فضاء مفتوح بفارق 240 م بين القمة والقاع، ومن هناك أخذنا درب نادر المعالم نحو وادي الركية وعينه التي تجذب مائها ليلاً ضباع وذئاب وثعالب وقط الوشق المعروف، وما أصبح نادر المصادفة كحيوان الوعل الماعز الجبلي الذي كان يشاهد بكثرة قبل سنوات واختفى حسب أبوعاصم، إلا أن الحظ أسعفنا برفين حجل وشنار.
وبالناصفة البيضاء وبين هلاليات الجيولوجيا وسحرها كانت استراحتنا ليبين لنا دليلنا من هناك الطريق التركي القديم القادم من معان حيث محطة القطار الحجازي عبر دلاغة لوادي عربة ومنها إلى العقبة والعريش مروراً بوادي السيق الذي سوف نخيم فيه، ونقبة وبير حمد مستخدمين عربات مجرورة بالبغال لصعوبة التضاريس ومن بعدها استخدمها جيش الانتداب البريطاني لتأمين جنوده ونقل معداته.
جمال متعدد بتكويناته ومشاهده بين ناحية وأخرى من البياض بالناصفة، انتقلنا للتلاع الحمر أي التلال الحمر كما تسمى بلسان الأهالي ووصفهم وكيف الريح والمطر ترك بجبالها الإسطوانية هوابط وفراغات وصقلها وبينها من الشقوق والممرات التي كثر على جانبيها نتوئات صخرية كانصاف دوائر ما لم نشاهده في مكان آخر والتي تجمع بمضمونها كل عناصر ومقومات السياحة البيئية.
ومن بين تلك التلاع وبعد صعود آخر وصلنا لضالتنا "مَعَصّق التيس" وهو الشق الضيق الآمن لمروره دون عوائق حيث الفضاء والضوء ينسل من خلال صدعه نحو الأفق محاوراً جانبيه باستقامة 120م وعرض أقل من 40 سم وارتفاع يتجاوز المائة متر، ومن ضيقه جاء الاسم، حيث كان عبر أهل البلد أن تيس الغنم لا يستطيع أن يعبره إلا بعد كسر قرونه، ومن روعة الصدع كررنا ذهابنا وعودتنا عبره عدة مرات وكل مرة تشاهد شيء آخر مع التقيد بشروط السلامة وبعدم اصدار أصوات تتعاظم ذبذباتها، وقد تؤدي لخلخلة الحجارة وسقوطها، حتى من بعد أن ابتعدنا عنه بدربنا نحو الغرب كان المشهد برؤية أخرى ففوق مدخله يترائى لك تاج مكتمل مرصع بالجواهر وجسر حجري، ليكون مقابل هذا الجمال استراحتنا الثانية وكأس من الشاي.
وبعد الصدع لوجد شيء من التربة والماء بالأماكن المحصورة التي نبت فيها الطلح والرتم والعجرم والذي يشتد عوده بشهر شباط وما يؤكل منه بموسمه البرعم الأخضر مع البيض المقلي.
وبعد هذا المسير الشيق وصلنا للنقطة المتفق أن نلتقي عندها بوادي السيق مع سائقي السيارات الرباعية واستلام متاعنا لبناء مخيمنا في إحدى الشعاب المحمية من ريح الليل إن هبت، ونصب خيامنا وجمع حطب موقدنا لليلة باردة من أيام ما يسمى بسعد الذابح الأبرد بفصل الشتاء، وطهي الثريد عشائنا المكون من خبز القمح المفتت بمرق اللحم والخضار.
أعدنا إشعال النار مع خيوط الفجر الأولى المنسلة بين جبال الشراة وانعكاسها على رمال الوادي المتوهجة كالذهب بعد أن ذرتها الرياح خافية أثر من سار عليها، تلاه إفطار بما معنا مع خبز العربود وشايٌ ساخن لنستكمل بعد حمل الأمتعة المسير إلى نقطة البداية متممين مسافة 28 كم متر بمستوى متوسط الصعوبة محصوراً بين 626 م ارتفاع و 373م انخفاض.