الذهنية المسيطرة عبر الحكومات الماضية، ذهنية غريبة وسلبية، وتتذرع بذرائع مختلفة، حتى لا تؤدي دورها، والنتيجة أن الملفات التي تعاني من الاستعصاءات تتزايد، ولا تتناقص ابدا.
في مكتب رئيس وزراء أسبق، سألت الرئيس عن سبب ترك الصحافة الورقية في الأردن لتعاني من كل هذه الازمات المالية، وزدت متسائلا عن دور الدولة، ازاء المؤسسات، فكان رده باردا من حيث قلة الانفعال، وقال..” أنت تريد ان ندعم الصحف الورقية، لكن لدينا ازمات اهم، فلماذا لا ندعم الدفاع المدني، مثلا، ونشتري سيارات اسعاف جديدة له، ولماذا لا نبني مدارس جديدة، مثلا، بدلا من المتهالكة، وانت تعتبر قطاعك هو الاولوية، لكننا في الحكومة نعاني من ازمات في كل القطاعات، والكل يريد، والكل يضغط علينا، ويريد المزيد، فمن أين نأتي بالمال، وبمن نبدأ أولا، ولماذا تظنون انكم احسن من غيركم، ألم يخلق الله غيركم في هذا البلاد؟”.
أطلق الرصاص علي، وغادرته متأسفاً على هكذا ذهنيات، ومعددا خسارة الوقت والبنزين، في مشوار الى رئاسة الوزراء، وسط الزحام، لأننا بالمقابل لم نسعف الصحف، ولم نشتر سيارات اسعاف، ولا بنينا مدارس، كما قال الرئيس، بل تم ترك كل شيء، او المساعدة بشكل جزئي.
اليوم، تعجب لحال الصحافة الورقية في الأردن، فهي متروكة للضغط، ضرائب الورق، كلف الطاقة، ضريبة الدخل، ضريبة المبيعات، الرواتب، تبدد الاعلانات تدريجيا من القطاع الخاص، وسياسة تنقيط المال الذي لا يطفئ كل هذه الحرائق، وفي الظلال اردنيون يعانون من اوضاع مؤسساتهم، وعلى اكتافهم بيوت ومسؤوليات، لا يتلفت اليها احد، ولا يجد حلا جذريا لها.
القصة قد تبدو هنا بمثابة تسول من الحكومة، وهذه بحد ذاتها نقيصة بحق الصحافة ان تقف على باب اي رئيس عبقري لتطلب الدعم المالي، لكن بالمقابل لا تجد دولة تترك اعلامها ليتراجع تحت الضغوط المختلفة، من رواتب العاملين، وصولا الى كلف الورق، والعجيب ان الدولة تصيح من وسائل التواصل، وظلمها، لكنها تترك الاعلام المحترف في غرفة الانعاش، وهكذا تدفع الدولة الثمن مرتين، مرة بسبب غياب اعلامها، ومرة بسبب تنمر وفوضى وسائل التواصل الاجتماعي.
كيف يمكن تغيير هذه المعادلة، فأنت هنا لا تتحدث عن دكانة خاسرة، يتوجب اغلاقها، فهذه ذهنية سطحية في التعامل مع الاعلام، والحل سهل جدا، ولا بد من خلية تخرج بقرارات بحق الاعلام، عبر دعم هذا الاعلام بالتعاون بين الدولة والقطاع الخاص، وتصنيف هذا الاعلام، حول ايه منتج، وايه لا، ثم انعاش الصحف ماليا، حتى تكون قادرة على تقديم محتوى محترف، ومؤثر.
انا ضد ابوية الحكومات للإعلام، فما لهم وما لنا، ولسنا تبيعة للحكومات، وأسوأ ما نواجهه كثرة التبرم والغضب والعتب من الرسميين على ما تتم كتابته، وفي الوقت ذاته يعتب عليك الجمهور، ويتهمك بالتسحيج احيانا، وبالتخلي عن المبادئ، وأنك تخذل هموم المواطن، وتتعامى عن الاخطاء، وبينهما يتم طحن المؤسسات الصحفية بسقوف منخفضة تجنبا لردود الفعل، والنتيجة ان الصحف تعاني ماليا، مثلما تعاني على صعيد مصداقيتها، واستمرارها، ومستقبلها.
لقد آن الاوان ان يتم التنبه الى واقع الصحافة الورقية، وان يتم التوقف عن النغمة البائسة التي تقول ان الورقي يختفي من العالم، وان على الصحف التنبه فقط للمحتوى والمستقبل الالكتروني، فهذه مهارب نجاة لمن لا يريد المساعدة، واعتقد اننا سوف نخسر كثيرا، اذا صرنا بلا صحافة ورقية ذات وجه الكتروني، وبدلا من ولولة المسؤول حول قلة المال، حتى تكاد ان تتبرع له بما في جيبك، لا بد ان يتصرف هؤلاء بمسؤولية، وان يتذكروا ان الاعلام مهم لأي شعب، واي دولة، ليس بالمعنى الوظيفي التحشيدي، بقدر تعبيره عن هوية بلد، باتت بعض مؤسساته تتراجع.
هذا الكلام، لا يقال نيابة عن احد، ولا تلميحا على أحد، حتى لا ندخل في لعبة التأويلات، وكل ما يراد قوله اليوم، ان الصحافة الورقية بحاجة الى حل جذري، مختلف، بعيدا عن الطرق العادية القائمة على توزيع حبوب البنادول على المؤسسات لتسكين الامها مؤقتا، وإسكات ألسنة من فيها.
نريد صحافة حرة، منتعشة، قوية، ذات سقوف، ومزدهرة ماليا، يقف امام بواباتها رؤساء الحكومات ليرجون تفهم سياساتها، لا ان تقف الصحافة على ابواب الرؤساء، لتتوسل وتتذمر.
(الغد)