.. في زحمة تدافع على حافلة "كوستر" وجد الستيني نفسه مثل كرة تتقاذفها امواج بشرية تتطاحن من اجل حجز مقعد، لهثا وراء موعد في دائرة رسمية في العاصمة علَها تفضي الى تشغيل الابنة خريجة الجامعة. طحنته الاكتاف والارداف وشعر باحتشاء وضيق ينخران جسده الصغير، لكن من حسن طالعه او من سوئه ان دفعه الموج البشري الى بوابة الحافلة ليستقر على كرسي اعفاه شر وقوف ساعة في ممر يزدحم عادة برجال يرمون الجالسين بنظرات شزر بوصفهم "أفضل حظاً".وما ان جلس وراء مقوده حتى اعلن السائق " الاجرة يا شباب" لينبري للمهمة شاب عشريني حليق الراس بدا ان لسانه ضارب في السوقية. وفي استجابة للاعلان بدأت الايدي بحثا في الجيوب عن "صرافة" او ما هو اكبر قيمة من الدنانير والعشرات تأهباً "لدفع الحساب".
فجأة بدأ الستيني صراخا وشتما للصوصية ونهب الناس، والسطو على جيوبهم في خضم تدافع شبهه بيوم الحشر. قال الرجل ان احدهم نشل محفظته وفيها وثائقه ونقود تجاوزت 40 دينارا هي بقية راتب لم يمض عليه سوى خمسة ايام.
رشقات الشتائم طاولت "قلة الادب" وانعدام الامان وراتبا لا يسد رمق عائلة صغيرة، وحكومة شغلها الشاغل " تحسين آليات التحصيل والجباية" .
: اجرتك يا حاج، صرخ الكونترول مؤنِباً، واضاف : فلمك محروق!.
: لا اله الا الله انا ناقصك. يا ابني انت ترى انني في سن لا يعرف "التفليم". حقك عندي وسآوفيك به ما ان اعود اليوم ان شاء الله.
الح الكونترول : الاجرة الآن ولست معنيا بما حدث معك فانت تحجز مقعدا .
: يا ابني توكل على الله والدنيا فيها خير رغم ان اولاد الحرام لم يبقوا شيئا.
تدخل في الجدل ركاب بدوا متعاطفين مع الستيني، وبلغة زجرية قال احدهم: الاجرة عندي. يا رجل وحد الله، كيف توجه كلاما قاسيا لرجل محترم في سن أبيك؟!
ابتلع الستيني خيبةَ ومرارة؛ بينما تحوّلت الرحلة الى العاصمة مداخلات من فوضى الحديث عن واقع الناس المؤلم ومحاكمة لسياسات أتت على الرواتب والحد المعقول من الحياة.
قال شاب بدا انه ينتظر فرصة ليعبر عن غضب جامح في سيل من تساؤلات : هل لاوجاعِنا الشخصية صدى عندهم؟! هل يعرف ساستنا أن الناس يعيشون منكسرين في خواءِ عميق؟! هل تعرف الاحزاب ان وجدت ودزينة من النواب ومؤسسات المجتمع أن صمت الناس خادع؟!.
اختتم الشاب الذي اطرق الركاب منصتين لحديثه: ان الماشية تحتمل الجوع الى حين، لكنها حين تعدم الوسائل تسير الى حتفها مرغمة لتواجه مصيرها في استسلام مُهين.
توقف عن الحديث وبدا الركاب مطرقين كمن اكتشف حيرته وسر تعبه للتو، فيما تدخل آخر : نحن بالضبط نسير الى حتفنا والتشبيه لا يحتمل الاهانة. واردف : نحن جميعا في عُنقِِ زجاجة، لا بل في قعر البئر !! . واضاف في تشبيه يختزل الواقع: هذا الرجل (الستيني) ضحية نشال واحد ربما ستنفرج اوضاعه يومين او ثلاثة، في حين نحن ضحايا قرارات وضرائب تنهب ما في جيوبنا اضافة الى افقار ليس له راد. يقنعوننا ان البرامج المعلنة دواء اراه داء يستفحل كحريق يأكل الاخضر قبل اليابس، حتى تبلد فينا الشعور وبتنا كمن يصدق كذبة فبركها عقل مريض .
وفيما كانت الحافلة تقترب من نقطة الوصول قال آخر بما يشبه التشفي: ستظلوا تدفعون ويُسطى على جيوبكم فانتم تستمرئون دور الضحية.