حالةُ الاغتراب التي نعيشُها تنمو في بعدين؛ عربي وإسلامي، وأعتقدُ أن أحد أهم أسبابها هو أننا مجتمعاتٌ نصّية تعشقُ الخطابة وتبدعُ في البلاغة والكتابة، ولكننا لا نستطيع تجاوز هذا الإطار، وليس لدينا خُططًا إجرائية يمكن تفعيلها على أرض الواقع؛ مؤتمراتُنا ولقاءاتُنا تكاد تكون مجاملات اجتماعية؛ التوصياتُ في معظمها مثالية، منمقة، ولكن سرعان ما تجد لها مكانا في الأدراج المقفلة.
عندما نحاكمُ النص كنص، كثيرا ما نكتشف أنه متكاملٌ ولا ينقصُه شيء، ولكن حتى نصوصنا الدينية لم تُترجم إلى أفعال، بل بقيت نصوصا نحفظُها ثم نسترجُعها ونأخذُ عليها أجرا عظيما؛ فاسترجاع حرفٍ واحد يمنُحك عشر حسنات، أو هذا ما نشأنا عليه، وما زرعناه في عقول الأبناء. إن هذه الطريقة في التعامل مع النص المقدس، أثّرت بطريقةٍ مباشرةٍ أو ربما غير مباشرة، في ثقافتِنا وطريقتِنا في التفكير، فإذا كان الأجرُ سينالنا لمجرد ذكر الحرف أو المفردة، فلم إذا سنتحمل عبء القيام بالعمل؟
المشكلةُ الأكبر التي نواجهها في التعامل مع النصوص، تكمن أيضا في التقديس الذي طال الكثير منها، وجعل من الصعب انتقادها أو حتى مناقشة محتواها. لا يفرّق الكثيرون بين النصِ المقدّس وغيرِ المقدّس، فالأصلُ أن النصَّ الإلهي هو النصُ المقدسُ الوحيد، وهذا يمنحُ القداسةَ والحقيقةَ المطلقة للكتبِ السماويةِ فقط، ولكنَّ الواقعَ غيرَ ذلك تماما، فالتقديسُ شملَ نصوصا إنسانية المصدر أيضا، فأصبح التفسيرُ مقدسا، والخطبةُ مقدسة، وما قاله العلامةُ الفلاني مقدسا، حتى أني لاحظت مؤخرا أن من يريدُ إضفاءَ الشرعيةِ على نصٍ عشوائي، غيرِ معروفِ النسب، ينسبه لأعرابي، فيقول: قال أعرابي كذا وكذا...
المشكلةُ أيضا تشملُ الأقوال المأثورة؛ الأمثال والمقولات الشعبية؛ القصص التراثية الغارقة في الغيبيات والمتعلقة بأصحاب الكرامات؛ وغيرها الكثير، ولكن الخطير في الأمر أن هذه الأنواع من النصوص اختلطت على الكثيرين بطريقةٍ جعلتها تكتسبُ شرعيةً معينة حولت معظمَ نصوصِ الماضي إلى نصوصٍ مقدسة.
ماذا يريدُ منا حراس التفسير وحراس النصوص وحراس التراث؟ أليس التفسيرُ فعلا إنسانيا تم تنفيذُه في ظل ظروفٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ محددة؟ هل يُعقل أن هذه التفسيرات لم تتأثر بأي شكلٍ من الأشكال بالسياقاتِ التاريخية التي وُضِعت خلالها؟ هل قالَ القدماءُ كل شيء وأخذوا في الاعتبار ما كان وما سيكون؟ وهل تنبأت كتاباتُهم بواقعِنا اليوم ففصّلت لنا كل الإجابات على كل الأسئلة؟
نحن نتعاملُ مع مفردات العصر بعقليةِ الماضي؛ ومع مفاهيم العصر ومشكلاته بفهمٍ أصبح خارجَ الإطارِ الزماني والمكاني للواقع الذي نعيشُه. لا يمكن أن نصلَ إلى المستقبل بأدواتِ الماضي، ولا يمكن أن نبقى أسرى للنصوص، ولا يمكن أيضا أن نقفَ عاجزين وخائفين أمام نصوصٍ تمَّ زرعُ تفسيرِها في العقلِ الجمعي بطريقةٍ خطيرة؛ ففكرة أننا "خير أمةٍ أُخرِجَتْ للنّاس" مثلا، هي فكرةٌ تم التلاعبُ بمعناها وتفسيرها، ووُظِّفتْ لتخديرِ الأمة وليس للنهوضِ بها وتحفيزِها لتستحقَ أن تكونَ خير أمة، فالتفسير السائد حاليا لهذه الفكرة هو تفسيرٌ مريحٌ لكلِ شخصٍ متقاعسٍ عن أداءِ رسالتهِ ودورهِ في إعمارِ الأرض، فهو (أي الشخص) نطفةٌ مقدسةٌ فقط بفضل الصدفة التي أوجدتهُ في هذا الحيّز المكاني، وبالتالي فهو بالنتيجةِ الحتميةِ لتفسيرِ النص الدراج أو السائد حاليا، سيفوزُ بالجنّة حتى وإن أفنى عمرَه عالةً على البشرية، بينما سيُلقى آخرُ في جهنم وبئسَ المصير مهما فعلَ ومهما قدمَ للبشرية، كنتيجةٍ حتميةٍ أيضا لذاتِ التفسير.
وصايةُ القديمِ على الحديثِ هي ثقافةٌ نمارسُها في اللاوعي الذي نشأ داخلَنا، وشواهدُ الفشلِ في تطبيقِها ماثلةٌ أمامَنا؛ فنحن على سبيل المثالِ لا الحصر، لم نهيء أبناءَنا لزمانِهم بل حققنا من خلالِهم ما لم نتمكن نحن من تحقيقه، وعظّمنا في مخيلتِهم أحلامَنا، فكانت النتيجةُ قوافلَ من العاطلينَ عن العمل، وأعدادا كبيرةً من الأفرادِ الذين لا يملكون أدواتِ الانخراط في المجتمع العالمي، في وقتٍ أصبحَ فيه العالمُ غيرَ محصورٍ بفكرةِ المكان التي تلاشت أمامَ ثورةِ الاتصالات.
هل لا زلنا نبحثُ عن نصٍ بلاغيٍ نعلقُهُ على أستار الكعبة؟ أم هل نطمحُ أن نكونَ جزءا فاعلا ومشاركا في الفعلِ الحضاري الراهن؟
لتخطي فكرةِ المعلّقات والوصولِ لعصرِ الذرة والتكنولوجيا، علينا تخطي فكرة تقديس النص لصالح فكرةِ تقديسِ العمل؛ علينا تحويل نصوصِنا إلى إجراءاتٍ عمليةٍ واستراتيجياتٍ قابلةٍ للتطبيقِ على أرضِ الواقع، وعلينا أيضا إعادة النظر بمنظومتِنا الأخلاقيةِ والقيمية بكليتها وإعادة تأسيسها على ترجمةِ الأخلاق إلى أفعالٍ وممارسات لها علاقة بكل تفاصيل يومنا، بدايةً من المنزل، مرورا بالشارعِ والعملِ والمدرسة، ونهايةً بالعبادةِ الخالصةِ لوجه الله تعالى ولتحقيقِ الخيرِ من أجلِ الخير، بعيدا عن فكرةِ عدّاد الحسنات والمكسب والخسارة أو حتى الثواب والعقاب، وإلا سيرفضُنا العالم وسنجدُ أنفسَنا خارجَ حدودِ التاريخِ والجغرافيا والمستقبلِ أيضا.