ذكريات الالم والامل.. حين تساوت عند الحسين قيم الحياة والموت
لن يغيب مشهد السابع من شباط من عام 1999م ، يوم شعر فيه الاردنيون بحجم الفقد ، ولكن كان يوم الثامن من شباط 1999م هو يوم الوقفة العالمية مع الاردن حين احتشد كل زعماء العالم بلا استثناء لم يمنعهم أي خلاف في عقيدة او خصومة او حرب يودعون المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه في ارض الاردن في ذلك اليوم الماطر الذي لم تتوقف فيه السماء بإدرارها الخيِر . فشعر الاردنيون ان العالم كله شريك معهم في الحزن وهم يدركون حجم الفقد ، ولكن كأن ذلك اليوم كان مفصليا لينتقل الاردنيون الى مرحلة جديدة تستند على الوفاء للارث العظيم الذي صنعه الحسين الى عهد الانطلاقة الجديدة بقيادة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ببيعة مؤسسة على الاخلاص للوطن ومحبة ال هاشم والتطلع الى المستقبل بعين الامل والتفاؤل .
47 عاما عشناها مع القائد الحسين ، كنا نشعر بحجم التحديات ، وندرك ان البناء والانجاز الاردني ما توقف في صنع دولة تعيش في المعاناة وما كانت التحديات الا قوة تراكمية في ركب الدولة ،
ولكن كانت بداية الحسين مع الموت يوم الجمعة العشرين من تموز 1951 حين كان جلالته شاهدا على استشهاد جده عند عتبة المسجد الاقصى المبارك ، وقد كان لهذا الحدث الاثر الاكبر في نفس جلالته وهو يرى عمامة جده تتدحرج امام ناظريه ولينطلق في اثر القاتل ويقتله، وهي حادثة جعلت من ابن الستة عشر عاما ان يرى الاحداث بمقياس الشيوخ ،وتجعل منه رجل مرحلة واحداث ، وكم عبر جلالته يرحمه الله عن هذا الحادث الذي اودى بحياة مؤسس المملكة ومنقذ القدس في حرب عام 1948م ومعلمه الاول 0الذي كان يقول عنه انت الامل يا حسين ) ، كم عبر في الكثير من خطاباته وكتاباته عنه ، ولعلنا نقف طويلا عند عبارة وردت في كتاب مهنتي كملك لجلالته تقول : ( من يومها قد تساوت عندي قيم الحياة والموت) .
وحين كتب جلالة الملك الحسين كتابه الاول ( Uneasy Lies The Head ) اي ( ليس من السهل ان تكون ملكا ) وهو يتحدث عن السنوات العشر الاولى من قيادة جلالته والذي صدر عام 1962م ،فقد كتب جلالته وهو ابن السبعة وعشرين عاما عن صعاب وتحديات المسؤلية وانواع الاخطار التي واجهته في ذلك العقد ، وكم كان خطر الاستهداف للاردن والذي اصبح جزءا اساسيا من كثير من سياسات بعض دول المنطقة ، لا لسبب الا بسبب مشروعية النظام الاردني وتاريخيته التي لا تتوفر لغيره ،
وحين تناول جلالته في كتاب ( حربنا مع اسرائيل ) الذي صدر عام 1969م الاحداث ما قبل 67 خاصة معركة السموع التي رأى انها المقدمة لاحتلال القدس والضفة الغربية ، وتناول خفايا حرب 1967 ومن ثم الانتصار الاردني الكبير في معركة الكرامة 21 اذار 1968م ، ومقدمات احداث الامن الداخلي في عام 1969م ، فقد تحدث جلالته عن تحديات سياسية تطورت عن سابقاتها واضحت اكثر تعقيدا،
وجلالته لا يخفي معاناته وتألمه الذي يظهر في خطابات جلالته واحاديثه المباشرة مع جيشه او مع البرلمان او مع الحكومة او حتى في لقاءاته مع شعبه ، وحين نحلل مفردات الخطاب الملكي لجلالته طيب الله ثراه نقف عند تعابير تتميز بالاجمال والبلاغة، من الوصف للمشهد السياسي الاردني بقوله ان (الزحام يعيق الحركة) الى قوله في حديثه عن معركة الكرامة ( هذه المعركة سرقوها منا ) الى تعبيره عن حرب 67 بقوله (هي الحرب التي لم نردها ) الى تعبيره عن نقد الوزراء والمسؤلين بقوله ( هل استورد وزراء من الخارج ) الى غير ذلك من التعابير ،
ربما الجيل الخالي لم يعش تلك المرحلة من المعاناة ،فقد انخرط في تكنولوجيا العصر واصبح اسيرا لجهاز بين يديه يحلق به في اي فضاء دون تجربة عركته او معاناة قاسية ودون ان يغرف تقلب المواجع ، والادهى ازداد التزوير في التاريخ والاضافات والتعديلات التى جعلت الحقيقة مشوهة ، وتراجعت قيمة الوطن الى حد ما .
حين نقول ان يوم السابع من شباط هو يوم الوفاء : فهو يوم الاخلاص للوطن الذي نعيش فيه ونلمس انواع التهديد المختلفة التي تطل علينا من نوافذ سوداء وصفراء ، هو يوم الوفاء لقائد تحمل مر الايام وعاش بين اكثر من 18 محاولة لاغتياله واكثر من عشر حالات اغلاق للحدود ومحاولة اختطافه جوا ، وعانى من حرب داخلية استشهد فيها 892 شهيدا اردنيا ، وقاسى من الموقف العربي في قمة الرباط 1974 حين ارادوا مصادرة فلسطين والقدس وقد نجحوا بشرِّهم هذا الى حد ما ليضعوا القضية الفلسطينية في مهب الريح ، ولكن كان الاردنيون بحجم الوفاء والصمود مع الحسين الذي كان دائما يقول ان العرش عندي بقيمة شعبي وما اقدمه . والاجمل حين كان جلالته يقول "ما انا بنظرهم سوى الحسين بلا مراسم او رسميات "
ولكن الانتقال الى البيعة يوم السابع من شباط هو البقاء في ذات الخندق وبنفس السلاح وبالقلوب العامرة بالاخلاص للقائد الهاشمي الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ليسير الاردن في نفس النهج في كونه بلد عربي ينتمي لامته والمخلص لقضاياها والثابت على مبادئ العروبة والحق وهو يتحمل مر العيش على ان يفرط بذرة من عروبته الصادقة مستذكرا ان الحسين بن علي فقد عرشه على ان يتنازل عن ذرة من القدس او فلسطين ، وان عبدالله الاول قضى في سبيل الوحدة العربية والدعوة لقوة العرب وان الحسين بن طلال قد قضى وهو يرفض المليارات ويؤثر الجوع ويقبل الحصار على ان يوجه سلاح الاردني الى صدر عربي .
الوفاء للحسين طيب الله ثراه ، والبيعة لقائدنا الهاشمي الملك عبدالله الثاني ولولي عهده الامين الحسين بن عبدالله الثاني ، والذكرى هي مراجعة للذات واستذكار الالم من اجل الامل والخير والاستمرار في الانجاز في وطن العزة والكبرياء .