في رثاء عدنان ابو عودة والتعددية
د. مروان المعشر
04-02-2022 12:08 PM
هاتفني يوما رئيس الوزراء وانا وزير للخارجية، معاتبا كيف اسمي عدنان ابو عودة ضمن مجلس استشاري قمت بتشكيله لتقديم المشورة لوزير الخارجية حول قضايا الساعة. حينذاك، قال لي الرئيس ان لعدنان ابو عودة اراء قد تختلف مع الموقف الرسمي الاردني، و لذا لا يجوز ان يكون ضمن هذا المجلس. اذكر جوابي تماما لدولته: "اعرف الموقف الاردني الرسمي تماما ولست بحاجة لمجلس استشاري يدلني عليه. انا بحاجة لسماع اراء اخرى وبالاخص تلك التي لا تتفق مع الموقف الرسمي".
لقد اشار جلالة الملك عبدالله الثاني بوضوح الى هذا القصور في تقبل الاراء المختلفة، و ذلك في ورقته النقاشية الاولى حين قال ان "الاختلاف ليس شكلا لانعدام الولاء، بل ان الاختلاف المستند الى الاحترام هو دافع للحوار، و الحوار فيما بين اصحاب الاراء المختلفة هو جوهر الديمقراطية"، ومن البديهي لدى كافة المجتمعات الحية ان تختلف الاراء حول اي قضية، فالاختلاف يغني الموقف و يقويه بعد ان يتم النظر اليه من كافة زواياه، كما ان غياب الاختلاف هو عنوان الجمود والتقوقع. و هناك مثل يقول انه ان تطابق اثنان في الفكر في كافة الامور والقضايا، فان احدهما لا ضرورة لوجوده.
عدنان ابو عودة كان مثالا للمسؤول الذي يرفض التقوقع، او وضع نفسه ضمن اطار جامد يحد من تفكيره. خدم الدولة الاردنية بكل اخلاص، واعطى رأيه المستند دائما للتحليل والنظرة الاستراتيجية. اصاب واخطأ، كما فعل كل من عمل في القطاع العام، ولكن احدا لا يحق له اتهامه بانعدام الولاء لطرحه اراء تختلف عن النمط السائد الذي يتشبث باحادية الفكر ويخون كل من لا يسير على سكة محددة.
عمل ابو السعيد في القطاع العام لاكثر من خمسة وثلاثين عاما، تبوأ فيها اعلى المناصب، كان باستطاعته ان يستغل منصبه بكل سهولة، ليس بالضرورة للاثراء المادي، ولكن للحصول على بعض الامتيازات التي تمكنه من تحسين وضعه المالي. ولكنه لم يفعل. عاش في منزله المتواضع قرابة الخمسين عاما، ولم يعين احدا من ابنائه او بناته في القطاع العام، وكان يستطيع ذلك بكل سهولة. دخل الخدمة العامة نظيف اليد، و تركها كذلك.
لم تشفع له نظافة يده، ولا فكره الثاقب، ولا خدمته المتفانية للدولة الاردنية، ولا وقوفه معها في احلك الظروف، فغضب منه الكثيرون للكتاب الذي اصدره و ابدى فيه اراء تتعلق بالهوية الوطنية الاردنية، فتمت مهاجمته بطريقة غير لائقة، وعاش السنوات العشرين الاخيرة من حياته شبه مغيب في الاوساط الرسمية، و لو انه كان يتمتع باحترام شديد في اوساط المثقفين، حتى اولئك الذين اتخذوا منه موقفا سلبيا في الماضي. اليوم، تتذكره الاوساط الرسمية بالخير لدى رحيله، و ليتها فعلت ذلك في حياته.
ما الذي يحدث في مجتمعنا؟ و كيف ضاقت مساحة الحرية لدينا بحيث عدنا لا نحتمل تعددية الاراء؟ هل كنا دوما كذلك ام اننا، كما اشعر، ننحدر تدريجيا نحو احادية الفكر وانغلاق العقل؟
لا يسع اي قاريء ليوميات ابو السعيد، و بخاصة توثيقها للمباحثات الاردنية الفلسطينية والعلاقة مع الولايات المتحدة في الثمانينات الا ان يدرك حقائق عدة، منها انه كان هناك مطبخ سياسي حول جلالة الملك يعاونه، ويختلف معه، و في بعض الاحيان يختلف اركانه مع بعضهم البعض، ضمن اطار عام يقبل هذا الاختلاف وينظر اليه كحالة اعتيادية وصحية تماما. و لعل من اهم واجبات المسؤول تقديم رأيه بصراحة في اي قضية تناقش، حتى تكون عملية صناعة القرار متكاملة تأخذ بعين الاعتبار كافة الزوايا والاراء.
لا استطيع اليوم ان ازعم ان حرية الفكر وتعددية الاراء قطعت شوطا ايجابيا منذ ذلك الزمن، بل لعل العكس هو الصحيح. نشهد اليوم و بشكل متزايد ثقافة مجتمعية يضيق صدرها بكل رأي وكل تصرف وكل ممارسة لا تتفق مع قالب جامد متقوقع يحدد وحده ما هو مقبول وما هو ليس مقبولا، وما هو خطأ او صواب.
ارثي اليوم ليس عدنان ابو عودة فحسب، و انما الثقافة التي كان يمثلها، و التي تؤمن بضرورة طرح مختلف الاراء وصولا الى القرار الصائب والمتوازن. ان كان عدنان ابو عودة قد مات، فلا يجوز ان نسمح لتعددية الاراء ان تموت ايضا، ففي ذلك تراجع للمجتمع.