نتحدث عن مئوية أردنية ثانية، لها معايير تختلف كليا عن تلك التي سبقتها، فقد تغيرت الأوضاع كثيرا، تضاعفت التحديات، ولم يعد شيء مثلما كان عليه أيام النشوء الأولى من عمر الدولة. البدايات تختلف دوما عن البناء والتطوير.
ولأنها مئوية مختلفة، فلا شك أنها تحتاج إلى أدوات تتماشى مع ما نحن ذاهبون إليه، وما تفرضه التحديات والفرص.
لا أريد الغوص في دلالات وإشارات رسالة جلالة الملك للأردنيين في عيد ميلاده الـ 60، فقد شرحها العديد من الزملاء الكتاب، وأبرزوا أهميتها، بعد تفسيرها وتحليلها، فرغم مضمون الرسالة المهم والشامل إلا أنها كما الحمل الثقيل الذي ألقي على ظهر كل مسؤول أردني، وكل مواطن ممن سيخوضون غمار المئوية الثانية بأمانيها وحقائقها وصعابها.
المؤشر الحقيقي في الرسالة الملكية هو أن البلد وصلت مرحلة بالغة الخطورة من جميع الجوانب، فالاقتصاد يعاند السير بوتيرة تحقق النمو والازدهار، والإدارة العامة تقبع بين براثن الخوف والتردد، والجيل الجديد يحتاج إلى تبنٍ ورعاية وخطاب من نوع خاص. والوصول إلى هذه المرحلة الخطرة يعني حتما أننا فقدنا البوصلة وأن لا مجال للصوت الخافت المرتجف، صاحب “الأنا”.
لكن، كمواطن أردني، لم أكن أرغب بأن نصل إلى هذه المرحلة التي نرى فيها المسؤول الأردني غير مقدام وضعيفا لا يقوى على اتخاذ قرار، ولا يؤمن بالاجتهاد، والابتكار، لكنه الواقع الذي لا يمكن إنكاره والهروب منه، وهو الوجه القبيح الذي لا يمكن تلوينه بمساحيق التجميل، وهو الظلام الذي لا طريق للنور إليه.
ما لفت انتباهي بعض المسؤولين ممن سارعوا عقب رسالة الملك إلى القول “لقد التقطنا الإشارات الملكية.. سنقوم على تنفيذها مباشرة”! هل يعقل هذا؟ حتما لا، فالرسائل الملكية كثيرة، وسبقتها أوراق نقاشية كانت بمثابة خريطة طريق لم يحسن أحد استغلالها، وتأكيدات الملك في مختلف المناسبات كانت بمثابة توجيهات للسير في خطاها، وتعاملنا معها على استحياء. أين كان هؤلاء المسؤولون ليتذكروا اليوم أن الرسالة قد وصلتهم؟
رؤساء وزراء شكلوا حكومات بكتب تكليف سامية تضمنت رؤى، ووزراء أقسموا أغلظ الأيمان على العمل بجد ونزاهة، وأصحاب عطوفة كان انتماؤهم للموقع أكثر من أي شيء آخر، وموظفون انغمسوا بالبيروقراطية، وتحكم بهم الإحباط واليأس، ولم يتركوا مجالا للشباب الذين ما يزالون يصارعون الحياة من أجل إثبات الذات، ووهب الدولة ما يملكون من قدرات وإمكانيات.
ليس مطلوبا من أحد اليوم أن يلتقط الرسائل الملكية فقط، ويتعهد بالعمل عليها، وإنما أيضا أن نتوقف عن بيع الأردنيين شعارات رنانة لم تعد تجد أذنا للاستماع.
العنوان العام من حديث الملك واضح ولا يحتاج إلا لعزيمة قادرة على العمل به بأمانة وإخلاص. المعادلة ليست رياضية معقدة، فمدخلاتها خطط قابلة للتطبيق، ومعاملها الأساسي المواطن والمسؤول، ومخرجاتها تحول حقيقي ينتهي بتحقيق الإنجاز والنجاح المأمولين.
تركيبة الإصلاح الثلاثية باتت على الأبواب، فالإصلاح السياسي قطع شوطا متقدما، فيما عجلة التطوير الإداري بدأت بالدوران، وها هي ورش العمل الاقتصادي تكاد تبدأ في إعداد توصيات لنحو 16 قطاعا. هذا هو عنوان المئوية الثانية التي تضع الأردن في واجهة مشرقة تقرر، أنه ورغم التحديات التي أخرت حركة السير إلى الأمام، إلا أن العزيمة قادرة على مواصلة البناء، ليتحول التفاؤل إلى واقع نرجوه لتراب وشعب هذا البلد.
الغد