إضاءات في الأحكام الشرعيّة العامّة لإدارة شؤون الدولة (1)
المفتي د. جاد الله بسام
31-01-2022 01:05 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي العربي الهاشمي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
تشمل الشريعة الإسلامية أحكاماً تفيد النّاس عموماً، إذ يحصّل الناس بسببها من الثمرات والمنافع الدنيوية قدراً صالحاً، وينأون بأنفسهم عن الأضرار والمشاقّ التي تنغّص عليهم معيشتهم، وقد عدّ علماؤنا هذه الميزة من كرم الشارع ومحاسن الشريعة.
وهذا النوع من الأحكام الشرعيّة العامّة مودَع في القرآن الكريم، ونجد كثيراً من خطابات القرآن الكريم موجّهة للناس كافة، مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168، وأما الفائدة الأخروية لا تكون إلا لمن اتّبع التشريعات الإلهية بعد الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإذعان للأوامر والنواهي عبادة وخضوعاً وانقياداً.
ومن الأحكام الشرعية العامّة ما يتعلق بإدارة شؤون الدولة وتراتيبها الإدارية التي تنظم الحياة العامّة والشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخلياً وخارجياً، وتقوم على رعايتها والحفاظ عليها وتيسير إجراءاتها أجهزةُ الدولة ومؤسساتها المتنوعة، سواء كانت أجهزة استشارية أو قانونية أو أمنية أو اقتصادية.
ومن المقرّر عند علماء الشرع وفلاسفة الحضارة وأهل القانون أنّ صور المسائل المتعلقة بإدارة الدولة متغيرة متجددة متطورة لا تقف عند حدّ، فكان من البديهيّ أن لا تندرج تحت نصوص خاصّة جزئية، بل تحكمها أصول كلية لتكون صالحة على مرور الأزمنة، واختلاف الأمكنة، وتجدّد الأحوال، وتعاقب الأجيال.
ولدى مطالعة ما أنتجته قرائح علماء الفقه والأصول من علماء الشريعة الإسلامية، خصوصاً في كتب الإمامة العظمى وأبواب السياسة العامة؛ نجد أنهم نصّوا على قواعدَ عامّة تتعلق بكيفيات إدارة الدولة بمفهومها العامّ، بقطع النّظر عن الشكل القانونيّ أو الدستوريّ الدّقيق الذي تتخذه الدّولة، فلنذكر بعون الله تعالى وتوفيقه بعض تلك الأحكام على صورة قواعد وكليات، فنقول:
قاعدة: الأساس في الإدارة العامّة حفظ الدولة والاهتمام بانتظامها
هذه قاعدة ترجيحية في كلّ ما يحصل فيه تعارض الظّنون ممّا لم تقطع فيه قواطع العقول والنقول، وذلك لأنّ الغرض الأساسي للدولة ليس إيصالَ الخير لآحاد الناس، بل إيصال الخير لكلّ الناس أولاً، ثم يتسع المجال لكل أحد أن يبدع ويمتدّ في المجالات المتاحة له، وسيكون ذلك عائداً على نفسه وعلى مجتمعه بالخير والتقدم.
قاعدة: الأمن أساس معتبر في إدارة الدولة
ينبغي أن تحقق قرارات الدولة الأمن والأمان للرعية، وأي شأن من الشؤون ينزع الأمن عن الناس فإنه لا ينبغي إنفاذه إلا بقدر يقدره ذوو الرأي، وليس المراد من هذه القاعدة إسقاط الأنظمة الإدارية المعمول بها أو تعطيلها، لكن يقصد به في المعنى الإداري الدقيق وجوب اتخاذ الإجراءات المتعلقة بالإدارة وتدبيرها على الصورة التي لا تنزع صفة الأمن عن المجتمع، لأنّ الأمن إذا زال كان ذلك مؤذناً باختلال الأمور وانتقاض أسس الدولة، وأي حاجة ستبقى بعد زوال الدولة برمتها؟!
قاعدة: تصرف الولاة والحكام والعمال منوط بمصلحة الرعية
ما يتولاه أصحاب القرار من مهام الدولة وطرق إدارتها يمكن أن يحدّد وينفّذ بحسب المصلحة، فما كان موافقاً لها صحّ، وما كان مبطلاً لمصالح المسلمين العامة لم يصحّ، وأمكن إلغاؤه وإبطاله ونقضه، وهذه قاعدة في غاية الأهمية، وهي تنزع ما يمكن أن يحصل من تسلط أو تعسف في الإدارة، وهي قاعدة تصب في مصلحة قاعدة أمن الدولة واستمرار نظامها.
الدستور